برحيله في باريس قبل أيّام، أُسدلت الستارة على حقبة كاملة من العمل الثقافي التلفزيوني.... ذلك الصوت المعدني الذي قدَّم عشرات الأفلام التسجيلية والبرامج الجادة، وحاور كبار المفكرين والمبدعين، تستعيده arte غداً، ضمن تحية خاصة من «ميتروبوليس»، البرنامج الشهير الذي أسّسه بنفسه
باريس ـــ عبد الإله الصالحي
هل تشكون من الغياب شبه التام للثقافة عن الفضائيّات العربيّة، علماً أن حالة الانحسار والتصحّر تلك تكاد تستشري في تلفزيونات العالم أجمع؟ إذاً يمكنكم أن تقفوا لتحيّة الرائد الفرنسي الذي جعل التلفزيون في خدمة الفكر والأدب والفنون على أشكالها... من خلال نموذج يمكن بسهولة تعميمه على المحطات العربيّة: ريبورتاجات وبرامج عميقة ومشوّقة تجعل من الثقافة شأناً عاماً، وتشرّعها على الجمهور الواسع. إنّه بيار ـــ أندريه بوتانغ الذي غرق في حادث في خليج أجاكسيو في جزيرة كورسيكا عن عمر يناهز الواحدة والسبعين، يوم 20 آب (أغسطس) الحالي. برحيله خسرت الساحة الثقافية الفرنسية أحد ألمع أقطاب الفيلم الوثائقي الثقافي. قطبٌ قدَّم إلى جمهور التلفزيون الفرنسي، خلال ثلاثة عقود، تحفاً وثائقية محكمة، وبورتريهات في غاية الإتقان، لكبار المفكرين والكتّاب والفنانين، فرنسيين و أجانب.
فضلاً عن مهاراته الإخراجية والتقنية، كان الراحل يتمتع بثقافة موسوعية وبمرجعية فكرية صلبة، جعلت منه محاوراً بارعاً يتقن طرح الأسئلة الدقيقة، كما يتقن فن الإنصات. وهذه ميزة، انعدمت كلياً للأسف عند مقدمي برامج ثقافية في فرنسا اليوم. وكيفما كان حجم المحاوَر وطبيعته، فبوتونغ كان يعطي الانطباع دائماً بأنه على دراية تامة بالموضوع. وهذا ما يفسر إلى حدٍّ كبير نجاحه في إقناع عدد كبير من القامات الفكرية، كدولوز وليفي شتراوس، بتسجيل أفلام وثائقية، على رغم موقف هؤلاء السلبي من التلفزيون والكاميرا عموماً.
أخرج Boutang عشرات الأفلام الوثائقية والبرامج الثقافية منذ التحاقه عام 1961 بمؤسسة التلفزيون الفرنسي التي كانت تدعى آنذاك ORTF. ومنذ ذلك الحين وحتى الأمس القريب، استكشف عوالم الأدب والسينما والفن المعاصر والتلفزيون، مسهماً في خلق النقاش الثقافي وإثرائه. مثابرته وإصراره على تناول احترافي وعالم للثقافة في التلفزيون، ينبعان من كونه قد تربى وتنفّس منذ بداياته في مرحلة الستينيات التي اتسمت بحيوية لافتة في المشهد الثقافي الفرنسي. أضف إلى ذلك أنه تربى منذ نعومة أظفاره في جو فكري وثقافي، لكونه ابن الفيلسوف الفرنسي بيار بوتانغ.
لقد كان له حضور خاص، إذاعي أكثر مما هو تلفزيوني. وكان يلقي تعليقاته بصوت معدني، وبإيقاع يلعب بمهارة على طبقات الصوت.
أخرج بيار ـــ أندريه بوتانغ باقة من البرامج الثقافية المتميزة مثل Océaniques و«نشرة السينما» و«الأحد الجديد» و«أرشيف القرن العشرين». كما أنجز سلسلة من البورتريهات لكبار الشخصيات كجان ــــ بول سارتر ومارتن هيديغير ولوي ألتوسير، وبابلو بيكاسو وسالفادور دالي وكلوسوفسكي. انتقل إلى العمل كمسؤول عن البرامج الثقافية في قناة arte، منذ عام 1996. وبسرعة، طبع القناة بنكهته وأسلوبه الخاصّين، حتى إنه تحوّل في نظر الكثيرين إلى رمز للقناة وخطّها الثقافي الجاد. وإضافةً إلى إشرافه المباشر على عشرات الأمسيات الخاصة، كان بوتانغ يعدّ ويقدم البرنامج الشهير «ميتروبوليس» الذي تبثه القناة كل مساء سبت. لكن مسيرته مع القناة، توقفت السنة الماضية بعدما صرفته بلباقة. وعلى رغم أنه لم يعلّق قطّ على حقيقة ما جرى مع «آرتي»، فمن الواضح أنه انسحب بنفسه، بعد خلافه مع المدير جيروم كليمون على التعديلات التي يريدها هذا الأخير على البرمجة.
ولعلَّ أبرز الأفلام الوثائقية التي تركها بيار ـــ أندريه بوتانغ: «أبجدية جيل دولوز». وهو عبارة عن حوار طويل بين دولوز وصديقته كلير بارني لمدة تسع ساعات، تحدث فيه الفيلسوف الفرنسي عن أفكاره ومنجزه الفلسفي بطريقة سلسة. وقد صوّر الشريط قبل أشهر من وفاة دولوز، وحصد نجاحاً مستمراً حتى اليوم. وعلى رغم أن الفيلم يكتفي بتسجيل الحوار عبر كاميرتين ثابثتتين، فبصمة بوتانغ واضحة تماماً، وخصوصاً أن المشاهد يسمع صوتَه من حين لآخر، عندما ينذر دولوز وبارني بانتهاء الشريط ويعلن استمرار التسجيل. طوال مسيرته، كانت للراحل نظرة خاصة للعمل الثقافي التلفزيوني، عماده الصرامة الفكرية، ورفض مسايرة الذوق العام. وقد تحوّل في العقد الأخير إلى ما يشبه جزيرة معزولة في محيط تلفزيوني فرنسي يسوده التسطيح والحذر من كل ما هو ثقافي وإشكالي. لذا، يرى كثيرون أن رحيل بيار ـــ أندريه بوتانغ يعدّ بمثابة إسدال الستار على مرحلة بأكملها من العمل الثقافي في التلفزيون، ورمزاً لانقراض أسلوب جاد، نخشى أن يكون قد ولّى إلى غير رجعة.
«آرتي» تكرّم بيار أندريه بوتونغ مساء غد، عبر حلقة خاصة من برنامج Metropolis.


غداً 23:45 على arte


تحية إلى كامل شياع

خصّص الزميل عبد الإله الصالحي حلقة برنامج «الأسبوع الثقافي» الذي يعدّه ويقدمه على أثير «مونتي كارلو الدولية» للكاتب العراقي ووكيل وزارة الثقافة كامل شياع، الذي اغتيل في بغداد قبل أيام. وفيه، يعيد الصالحي بثّ حوار، أذاعه البرنامج صيف 2007 مع شياع، على هامش مهرجان قبرص السينمائي الدولي. وتحدّث حينها طويلاً عن راهن الثقافة العراقية في زمن الحرب وعن مشاريعه للنهوض بها. في البرنامج أيضاً، شهادتان لصديقيه الكاتبين العراقيين المقيمين في فرنسا جبار ياسين وحسين كركوش، وقراءة لنص «أوهام العودة» الذي كتبه شياع لمجلة «زوايا». يعاد بث البرنامج يوم الأحد على أثير الإذاعة عند الواحدة والعشرين دقيقة ظهراً