السيمفونية الخامسة للودفيغ فان بيتهوفن ما زالت بخير! بعد مئتي عام على وضعها، ما زالت تحتلّ المرتبة الأولى من حيث الأهمية العالمية، مقدّمةً الجديد لناحية الإيقاع والنسيج الأوركسترالي والنَفَس المتحرِّر من قيود القواعد
بشير صفير
على رغم الروائع الموسيقية الكثيرة التي تركها لنا المؤلف الألماني لودفيغ فان بيتهوفن (1770ـ 1827)، فإن سيمفونياته التسع تحتلّ المرتبة الأولى من حيث الشهرة والانتشار مقارنةً بمؤلفاته الأخرى (سوناتات البيانو، رباعيات الوتريات، كونشرتوهات البيانو،...). يعود ذلك إلى أنّ هذه السيمفونيات هي العمل الأكثر تسجيلاً في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية حتى اليوم، إذ قلما نجد قائد أوركسترا لم يسجِّلها كاملة (وأحياناً أكثر من مرة)، أو بشكل جزئيّ. ومن لم يسجلها، فهو بالتأكيد قاد إحداها أو أكثر في حفلة حيّة. أما في ما يخصّ السيمفونيات نفسها، فيُمكننا أيضاً الجزم بأنّ السيمفونية الخامسة تتقاسم المرتبة الأولى مع التاسعة من حيث الأهمية العالمية. قد يفضّل أحدنا السابعة أو الثالثة أو السادسة، لكن ما هو مؤكد أنّه من المستحيل ألّا نجد مَن لا يستطيع التعرُّف إلى «الخامسة» ولو لم يعرف اسمها أو اسم مؤلفها أو تفاصيل أخرى. أربع نوتات متراشقة تقولها الأوركسترا، لا يعرفها إلّا مَن لم ينعم منذ الولادة بالحاسّة التي فقدها مؤلفها في شبابه أي السمع: إذاً «خامسة» بيتهوفن ما زالت بخير بعد مئتي عام. أما هذه النوتات الأربعة التي تُستهَل بها الحركة الأولى، فيقال، نقلاً عن أنطون شيندلر (صديق بيتهوفن)، إن المؤلف أراد منها الصورة التالية: القدر يقرع الباب. لذا هي معروفة بـ «سيمفونية القدر» ولو أنها لا تحمل رسمياً هذا الاسم.
أنهى بيتهوفن كتابة هذه السيمفونية عام 1808، وكان قد بدأ العمل على تأليفها قبل أربع سنوات، أي مباشرة بعد الثالثة. لكن بيتهوفن باشر، قبل إكمال رائعته، بتأليف السيمفونية التي أصبحت «الرابعة». وهكذا اتخذت السيمفونية التي نحتفي بها اليوم الرقم خمسة. أتى هذا العمل بعدما تمكّن بيتهوفن كلّيّاً من الكتابة السيمفونية الأوركسترالية وأخذ يطوِّر هذا الفن فارضاً مدرسته المستقلة التي كرّستها «الخامسة» بعدما ارتبطت أعماله الأولى بتقديمات موزار (1756ـ 1791) وهايدن (1732ـ 1809) في هذا المجال. صحيح أن بيتهوفن اعتمد التقسيم الكلاسيكي للعمل السيمفوني في «خامسته» (أربع حركات)، لكنه قدّم جديداً لناحية الإيقاع والنسيج الأوركسترالي والنَفَس المتحرِّر من قيود القواعد التي نتجت من مراعاة مزاج الملوك والأباطرة الذين كان يحتقرهم علناً.
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، تزايد الحديث في أروقة «الناسا» (وكالة الفضاء الأميركية) عن الإمكانية العلمية لوجود عوالم في كواكب أخرى تعيش عليها مخلوقات فضائية. من هذا المنطلق، عمل تقنيو المركز الشهير على مشروع إطلاق كبسولة خاصة تحمل نماذج من الأرض، تدلّ مَن قد تجد (أو وجدَت؟) على خصائص وإنجازات حضارتنا البشرية. في الشق المتعلق بالموسيقى، اختار الأميركيون مجموعة من أعمال ترمز إلى أكثر من نمطٍ وسجّلوها على أسطوانة مدمجة (الاختراع الجديد في مجال التسجيل آنذاك). في ما يتعلق بالموسيقى الكلاسيكية، وقع الاختيار على السيمفونية الخامسة لبيتهوفن (إضافةً إلى أعمال لموزار وتسجيل عازف البيانو الكندي غلان غولد لأحد أعمال باخ)، التي انطلقت على متن المركبة الفضائية «فواياجر» بحثاً عمّن يقدّرها في الفضاء الفسيح، بعيداً من صخب كوكبنا!
أما بالنسبة إلى التسجيلات التاريخية التي أعطت «الخامسة» أبعادها الحقيقية، فنذكر أهمها: تسجيل لأوركسترا فيينا الفلهارمونية بقيادة الأرجنتيني كارلوس كلايبر. أكثر من تسجيل قديم للقائد الألماني الكبير فيلهلم فورتفانغلر (أوركسترات مختلفة). أربعة تسجيلات لهربرت فون كارايان (اثنان منها متوافران على «دي.في.دي» مع أوركسترا برلين الفلهارمونية)... وتجدر الإشارة إلى أنّ «أوركسترا الديوان الشرقي ـ الغربي» التي أسّسها الراحل إدوار سعيد وصديقه دانيال بارنبويم قدمت «الخامسة» بقيادة الأخير في رام الله وهي متوافرة على «سي.دي» و«دي.في.دي».