يوم الجمعة 13 أيار (مايو) 1988، شعر كثيرون بالشؤم الذي ينذر به لقاء هذا اليوم من الأسبوع بالرقم 13، لكنّ شره أصاب يومها عالم موسيقى الجاز: عازف الترومبيت ومغني الجاز الأميركي تشات بايكر الذي سقط من على شرفة غرفته في أمستردام. هكذا رحل ملك الـ «كول جاز» منذ عشرين عاماً بعد مسيرة فنّية صاخبة، وحياة ملأى بالموسيقى لكن أيضاً بالمتاعب المذلّة والمؤلمة التي كان سببها الإدمان على المخدرات. الرواية الحقيقية للحادث لم تُعرَف حتى اليوم، والتكهنات ترواح بين إمكان الانتحار وبين مجرّد قضاء وقدر. وقد تكون المخدرات أدّت دوراً في فقدان بايكر التوازن. كما لم تُدحَض نهائياً فرضية الجريمة، أي إن بايكر سقط عندما دفعه أحدهم بهدف قتله. ولد تشات بايكر في الولايات المتحدة عام 1929، ودرس الموسيقى بدايةً مع والده، ثم تعمّق في العزف على آلة الترومبيت بعد تجربة مع آلة نفخ نحاسية أخرى، الترومبون. بدأ مسيرته الفنية عازفاً إلى جانب رموز الجاز أمثال تشارلي باركر وستان غَتس، قبل أن ينضم مطلع الخمسينيات إلى فرقة عازف الساكسوفون الشهير جيري ماليغن ويكرّس بعدها نمطاً اشتهر فيه: الـ «كول جاز». هكذا كوّنت المقطوعات ذات الطابع الحزين والأغنيات الهادئة التي كان يؤديها بصوته محور مشروعه الموسيقي، فترك لنا عشرات الألبومات التي جعلت من صاحبها رمزاً لا منافس له في «الجاز الأبيض». وإذا كانت المخدّرات أحد مصادر وحيه في الهذيانات التي عاش في عالمها مراراً، فهي من جهة ثانية جلبت له المتاعب والمصائب المصيرية التي أثّرت على فنه سلبياً. فقد سُجن بايكر أكثر من مرة لحيازته مادة الهيرويين وغيرها، وتعرض في إحدى الليالي للضرب من عصابة تجّار مخدرات، فتكسرت أسنانه الأمامية وهي عضو أساسي في تقنية العزف على الترومبيت، فعجز عن ممارسة مهنته ريثما قام بتركيب وجبة، أعادت إليه الأمل في معاودة العزف بصعوبة لم يتخطَّها حتى وفاته.
بُعيد وفاته، صدر وثائقي يروي قصة حياة بايكر بعنوان Let›s Get Lost (إخراج بروس ويبير)، ويرتكز إلى بعض المقربين منه (عائلته وأصدقاؤه وبعض الموسيقيين). يعود اليوم هذا الفيلم إلى الواجهة، بعدما أقدم بعض المحطات على عرضه إحياءً لذكرى هذا الرمز الموسيقي الكبير في القرن العشرين.
بشير...