أعماله الكاملة صدرت عن «دار النهضة»
مجموعته الأولى «ليس للمساء إخوة» كانت إعلاناً قوياً عن موهبة اهتدت مبكّراً إلى نبرتها. من القرية إلى أرض الغربة الواسعة، ومروراً ببيروت، كتب الشاعر اللبناني أجزاءً حقيقية من تجربته الشخصيّة، وظلّ وفياً للمناخ الذي صنع فرادة عالمه ورؤياه. عودة إلى قصيدته المكتوبة على نار التأمل الخفيفة

حسين بن حمزة
لعل أجمل هدية تقدمها لنا «الأعمال الشعرية» لوديع سعادة (دار النهضة) هو أنها تعيد مجموعته الأولى «ليس للمساء أخوة» إلى التداول مجدداً. المجموعة ذات العنوان العذب واللافت، التي وزِّعت بخط اليد أوائل سنة 1973، ثم طبعت رسمياً سنة 1981، كانت إعلاناً قوياً عن شاعر اهتدى منذ البداية إلى نبرته. كانت المجموعة عالماً شعرياً متكاملاً، إلى حد أننا نستطيع أن نجد فيها أساساً لمعظم الموضوعات والتقنيات والتدرجات الأسلوبية التي ظهرت في المجموعات التسع التي أصدرها الشاعر لاحقاً.
الشعراء الذين يبدأون ناضجين نادرون. وديع سعادة (1948) من هؤلاء. مجموعته الأولى خلت من عثرات البدايات. واليوم، حين نعيد اختبار قصائده الأولى، نكتشف كم هي قابلة للحياة. نتجول بين استعاراته المصنوعة بنبرة الشعراء المتفلسفين، ونلمس كم هي قادرة على إدهاشنا، وكم ستواظب على ذلك. “نتسلقُ ضحكاتنا/ لأنّ صراخنا شاهقٌ جداً”. هذا ما كتبه وديع الشاب في مستهل تجربته. وكتب أيضاً: “سأذهبُ إلى الغابة أقعدُ مع الحطابين/ وبفأس دهشتهم/ أقطعُ أحلامي وألقيها في النار/ يقولُ الحطابون/ اليابسُ يُقطَعْْ”. الواقع أنه لا فائدة تُرتجى من الاستشهاد بصورٍ مستلَّة من قصائد أو حتى بقصائد كاملة. المجموعة كلها تصلح مثالاً على النبرة المفردة والناضجة التي بدا فيها الشاعر سبَّاقاً على فكرة أنه ينشر مجموعته الأولى.
النصوص ذات الطعم الفلسفي والشخصي التي كانت قائمة على مفردات ذات طبيعة ومشهديات ريفية وجبلية، ستستمر في مجموعته الثانية «المياه المياه» (1983). ثم ينعطف الشاعر في المجموعة الثالثة. حدّة الانعطافة برزت منذ عنوانها الغريب: «رجلٌ في هواءٍ مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات» (1985). الجملة الشعرية أفُلتت من كثافتها ومجازاتها التأملية لمصلحة قصيدة يومية ومتسكعة ومتفرجة على عالم ذي إيقاع أسرع من عالم الطبيعة. المفردات صارت أكثر مدينية وعنفاً، وبات لتجاورها جلبة كالتي تحدث عند احتكاك مواد صلبة.
العالم التأملي الخافت اختُرق بنبرة صادمة وفظة. صار عادياً أن نجد «عظمة ساخنة تخرج من ثكنة وتتنزّه»، أو «لماذا إذن خرجتُ لأنزِّه الكلاب غير المروَّضة في رأسي»... صور مثل هذه راحت تُظهر شخص القصيدة ـــــ ابن الطبيعة ـــــ وقد طحنته الأسفار والإقامات غير المخطط لها جيداً في المدن الغريبة. النبرة لم تتغير. واصل الشاعر عنايته الفلسفية ذاتها بعبارته. لم يخفف من انشغاله بصيد الصور الشعرية الثمينة. تدخّلت نكهات ومعاجم جديدة في شغله، لكنّه عرف كيف يستدرجها إلى قصيدته ويُصالحها مع المزاج السابق لهذه القصيدة.
الشاعر ـــــ كشخص تربّت لغته على تأمل حياة الجبال والأشجار والفصول والفلاحين ـــــ لم يفقد مهارته في الوصول إلى لبّ الأشياء، حتى ولو كانت أشياء المدينة ورطاناتها الحديثة. إنها حياة الشاعر نفسه مجرجرة على وجهها، وممرّغة على الإسفلت. كتب وديع سعادة أجزاءً حقيقية من تجربته الذاتية. فعل ذلك في بداياته التأملية ذات الجذر الجبلي والريفي، واستمر في توظيف تجربته حين عاش تجربة الاغتراب. كان في استطاعته أن يكتب قصيدة مصنوعة من تأمل صرف: «دفنتْ طفلها هناك/ وانتظرت سنوات لتنام قربه/ وحين وضعوها في ذاك التراب/ صار عمرها يوماً/ وكان هو صار/ عجوزاً». لكنه برع في إنجاز نصوص مصنوعة بمواد أخرى: «المتعبون في الساحة، وجوههم ترقُّ يوماً بعد يوم/ وشعرهم يلين/ في هواء الليل والأضواء الخفيفة/ وحين ينظرون إلى بعضهم ترقُّ عيونهم أيضاً/ إلى درجة أنهم يظنون أنفسهم زجاجاً/ وينكسرون».
العالم المديني والمخيلة الريفية ظلا يتشاطران الحضور في لغة سعادة. وهو ما استمر في مجموعاته الثلاث التالية: «مقعد راكب غادر الباص» (1987)، و«بسبب غيمة على الأرجح» (1992)، ثم «محاولة وصل ضفتين بصوت» (1997). في هذه المرحلة، وجد شعره مسالك واضحة إلى أعمال الشعراء الجدد، في لبنان وخارجه. الثمانينيون أولاً أخذوا منه جملته الدسمة والمتقشفة، واستخدامه لمفردات وتراكيب تبدو ـــــ للوهلة الأولى ـــــ غير شعرية. الذين جاؤوا لاحقاً استثمروا مزاج قصيدته اليومي المطهوّ على نار التأمل الخفيفة.
في مجموعته «بسبب غيمة على الأرجح» (1992)، رجع الشاعر إلى منجمه الشعري الأول. استعاد نبرته التأملية. عاد أهل الجبال ليسكنوا صوره المدهشة: «زحلوا نحو الماء/ منحدرين من جبالهم ظلالاً ناعمة/ لئلا يوقظوا العشب»... و«في بالهم/ إذا مرّ غيمٌ/ ينزل المطرُ على حقولهم البعيدة». ينهي الشاعر هذه المجموعة بنص نثري منجز على سطور كاملة. لكنّ القارئ سيعرف أن ذلك كان تمهيداً أولياً لإسراف في النثرية سيحتل مجموعات كاملة.
يُقال إن الأعمال الكاملة تمنح القارئ فرصة التجوال في منجز شعري شامل. أعمال وديع سعادة تفعل ذلك وأكثر. نحن لسنا هنا أمام كرونولوجيا شعرية ذات معنى زمني فقط، بل في حضرة شعرٍ كُتب ليعيش عند نفسه، وعند الآخرين. شعرٌ كهذا لا بدّ أن يحظى بحياة مضاعفة.


جيل الحداثة الثانية

لا بدّ من وضع تجربة وديع سعادة داخل الزمن والبيئة الشعرية اللذين نشأت فيهما لكي تستوفي هذه التجربة استحقاقاً «جيلياً» يُضاف إلى استحقاقها الفردي. وديع سعادة شاعر من طراز خاص. هذا صحيح، لكن ينبغي أن نشير إلى أن الظرفين الشعري والتاريخي منحا هذه الخصوصية خصوصية إضافية تمثَّلت في أن صوته ترافق مع صوتين لبنانيين آخرين كان لكل منهما نبرته الخاصة، وهما عباس بيضون وبول شاوول. بعيداً عن الاستعمال المبتذل لمصطلح «الجيل الشعري» كوّن هؤلاء الثلاثة ـــــ كلٌ بطريقته ـــــ أفضل تعبير عن انتقال الحداثة الشعرية ــــــ وخصوصاً قصيدة النثر ـــــ من زمن الروّاد ومجلة «شعر» إلى زمن آخر يشير إلى بداية حداثة ثانية.
في نصوص الثلاثة، وفي نصوص من تلاهم بالطبع، بدأت البيانات والتعميمات والطموحات الكبرى للروّاد تتحوّل إلى ممارسة تفصيلية. المسالك الوعرة التي شقَّها الرواد ربحت دروباً جانبية ومنعطفات فرعية. التنظير والتأسيس الشعري اللذان شُغل بهما الروّاد والمؤسّسون تحوّلا إلى واقع شعري ملموس ومَعيش. أدّى هؤلاء دور الوسيط الفعّال بين زمنين، وأدّوا لاحقاً دوراً «ريادياً» بالنسبة إلى معظم شعراء الثمانينيات والتسعينيات.
في السبعينيات، الزمن الذي بدأت فيه تجارب الشعراء الثلاثة، أنهت الحداثة الشعرية العربية مواجهاتها الكبرى، وتفرغت مشاغلها واقتراحاتها. ترسّخت قصيدة النثر أكثر فأكثر. تخفّفت اللغة من قواعدها وشروطها القديمة، ومن التشنجات والإرهاصات التي بدأها الروّاد في آن واحد. غادر الشعر القواميس والمعاجم. نزل إلى الشارع. ذهب إلى البار والوظيفة. تضاءلت فكرة الشاعر النبي والقائد لمصلحة شخصية الإنسان الصغير الذي تطحنه الحياة الحديثة وتعقيداتها الكثيرة. صار الشعر نوعاً من ترجمة مقترحة لارتطام الفرد بحياته العادية. لم نعد نرى أحلاماً كبرى أو موضوعات شاملة. انسحبت الكليات لمصلحة الجزيئات. اللغة الشعرية تخلّصت من التفجّع الذاتي والتهويمات البلاغية. تخلّت عن الفصاحة. باتت مستخرجة من نوافل العيش وتفاصيله العادية.
اللافت أنّ كل واحد من الشعراء الثلاثة بدأ بمجموعة أولى لا تشبه البواكير الشعرية. لا تزال ممكنةً حتى اليوم معاينة النضج والخصوصية اللذين بدأهما شاوول في «أيها الطاعن في الموت» (1974)، وبيضون في «الوقت بجرعات كبيرة» (1982). مع «ليس للمساء إخوة» (1981) لسعادة، تشارك الثلاثة لحظة الاهتداء المبكر إلى نبراتهم الشعرية الخاصة.
اللافت أكثر أن هذا الثالوث اللبناني تزامن مع تجارب عربية أدّت الدور نفسه في بيئاتها الشعرية المحلية: سركون بولص وفاضل العزاوي (العراق). سليم بركات ونزيه أبو عفش (سوريا). محمد بنيس (المغرب). قاسم حداد (البحرين)... منهم من بدأ بديوان أول مثّل علامتهم الفارقة، ومنهم من راكم هذه العلامة عبر أكثر من ديوان.