تحتفل فرنسا هذه السنة بمئوية أوليفييه ميسيان (1908 ــــ 1992) الذي يعُدّ من رموز التجديد والحداثة في القرن العشرين. لم يولد هذا العبقري المجازِف بطليعيته من العدم، بل مثّل امتداداً غير مباشر لمدرستين فرنسيّتَيْن: الانطباعية التي وُلدت قبيل بزوغ القرن الماضي (كلود دوبوسي وموريس رافيل)، و“عصبة الستة” (تأسست تيمّناً بـ“عصبة الخمسة” الروسية). يصعب اختصار حياته الفنية بأسطر قليلة، لكن يمكن تعداد بعض خصائص تجربته وهي الأكثر تعقيداً وعمقاً في تاريخ فرنسا الموسيقي الحديث (إلى جانب بيار شافر، بيار هنري وبيار بولاز). يتمحور إبداع أوليفييه ميسيان حول ثلاثة مصادر وحي: الميثولوجيا المسيحية، زقزقة العصافير وإيقاعات ومقامات موسيقى شعوب الشرق الأدنى والشرق الأقصى، وأيضاً الفلسفات القديمة لهذه المنطقة (على غرار كثيرين من أميركا مثل تيري رايلي وستيف رايش وفيليب غلاس، ومن بلدان أوروبية أخرى مثل أرفو بارت). في المصدر الأول، وجد ميسيان الرجاء الوجودي (أو “الحقيقة” الوجودية) الذي لم تستطِع أن توفّره علوم الفيزياء والأحياء والرياضيات، إذ شرح يوماً أن الحقيقة تكمن في مكان آخر، لا حيث يبحث العِلم. لكن المفارقة هنا تكمن في أنّ الدين المسيحي ظلّ مصدر الإلهام الأول للإبداع في الموسيقى (والفنون عموماً) لغاية باخ، وأخذ بالانحسار منذ موزار حتى أصبح عنوان “الرجعية” في القرن العشرين. وهنا تكمن استثنائية عبقرية “ميسيان المسيحي”. حقّق ميسيان في المصدر الثاني إنجازاً ما زال يُصنَّف بالفريد من نوعه. فقد دوَّن زقزقة العصافير على سُلّم الموسيقى، واستعادها عبر مقطوعات لآلة البيانو (عمل بعنوان “كاتالوغ العصافير”). أما في ما يخص المصدر الثالث، أي إيقاعات ومقامات موسيقى شعوب الشرق الأدنى والشرق الأقصى، فيجب الإشارة إلى أنّ الغرب الذي تعرَّف إلى الشرق، لم يتأثّر بالموسيقى الشرقية. وقد يكون السبب (وهو على الأرجح كذلك) “الرعب” الذي يخلقه ربع الصوت عند الغرب الذي يعادي حتى اليوم ما يجهله في هذه الموسيقى. وما يؤكد صحة هذا الاعتقاد هو تآلف الغرب مع المقامات الشرقية التي لا تتضمن ربع صوت.