لوحة صادمة تختزل اللحظة المعطّلة نجوان درويش
في مشروعه الأخير standby الذي يتخذ من ستينية النكبة الفلسطينية موضوعاً، يكمل هاني زعرب (1976) بحثه التشكيلي في اللحظة الفلسطينية المعطلة، وواقعة الاحتلال التي تمتد كظل من الزفت (القار) على مساحة ستين سنة عربية. قد تلخّص تجربة هاني حكاية الجيل الأخير من التشكيليين في فلسطين: سواء أكانت تجربة حياتية لجيل أبصر النور أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، فيما الاحتلال يطبق على الأنفاس، أم تجربة فنية تعارك اللوحة أو تحاول تجاوز القوالب التعبيرية نحو أشكال وصيغ جديدة.
من خلال «موديل» في حالة انتظار سلبي، تختصره الكلمة الأجنبية «ستاندباي» (حالة ترقّب أو تأهّب ـــــ أو انتظار...) ينتقل هذا «الموديل» (قد يكون الفنان ذاته) بين تشكيلات لمجمل الجسد في القسم الأول من اللوحات إلى حضور يقتصر على الوجه (القناع؟) في لوحات القسم الثاني. سلسلة اللوحات التي بدأ رسمها العام الماضي بالمواد التقليدية (ألوان زيتية)، وانتقل أخيراً إلى رسمها بالزفت الأسود (ممزوجاً بقليل من الحنّاء والموادّ الأخرى كالبيغمونت) عُرضت أخيراً في «غاليري كرو للفنون الجميلة» في باريس. وهي أقل ما يقال عنها إنّها صادمة وغير مألوفة. علماً بأنّ هاني أقام في باريس ثلاثة معارض شخصية في فترة قصيرة نسبياً. وإن كان أوّلها «مَخرج» أقيم في «غاليري المدينة العالمية للفنون» عام 2006، فقد أقام المعرضين الآخرين في 2007: «الحاجز» في «غاليري أوروبيا» و«حرب البنانير» في «غاليري كرو» أيضاً.
تكمن أهمية المشروع بكونه بحثاً في ماهية اللوحة؛ اللوحات التي عُرضت، وتحديداً القسم المرسوم منها بالزفت، هي نتاج صراع ذاتي مع الرسم (أو «التصوير» كما كان يسميه أسلافنا قبل انتقال الكلمة إلى التصوير الفوتوغرافي). مواجهة الفنان لأسئلة وشكوك ذاتية وموضوعية بشأن «اللوحة» وإمكاناتها، وإن كان فن الرسم ما زال ممكناً و«موت اللوحة» في زمن سطوة الوسائط البصرية الأخرى. كل ذلك قاده إلى تغيير أساسي في طريقة مواجهته للوحة، فمن مواجهة أفقية للسطح، انتقل إلى مواجهة عمودية في إسقاطه للمواد في عملية تنفيذ اللوحة وفي مستوى النظر أثناء العملأما الزفت، فليس مادة محايدة، الرسم به هنا أقرب ما يكون لبحث الفنان في طفولته وفتوته في الزمن القاتم للاحتلال، حيث يكاد الوقت يكون معادلاً موضوعياً لذلك الزمن. يقول زعرب إنّ «اختيار الزفت ليس اعتباطياً؛ بل لحضوره المادي والنفسي خلال مراحل تطور الوعي لدي تحت سقف الاحتلال منذ الطفولة، حيث العتمة والألوان الرمادية ظلّت ملازمة للبيت الذي ولدتُ فيه في مخيم رفح خلال ليالي الانتفاضة الأولى عام 1987. كان لتلك الأيام وقع شديد على مدركاتي البصرية ولا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم حين استيقظنا من النوم بعد 40 يوماً من منع التجوال، لنفاجأ بأنّ كل لون في الخارج اصطبغ بسواد كامل، وقد تم رش الشوارع بالزفت في كل الاتجاهات».
ويتابع هاني سرده لعناوين «العلاقة» مع الزفت... «من زفت الطفولة إلى زفت الشباب»: «بعد ثماني سنوات، كنت في الفوج الأول من المعتقلين الذين سُحِبُوا من بيوتهم وعيونهم معصوبة خلال اجتياح «الجيش الإسرائيلي» للضفة الغربية عام 2002. ومع ازدياد أعداد المعتقلين، استُحدثت أقسام جديدة في المعتقل لاستيعاب هذه الأعداد الكبيرة التي أتوا بها من كل مدن الضفة الغربية المجتاحة. ولم تكن تلك الأقسام الجديدة سوى مساحة أرض صغيرة مسيجة بأسلاك شائكة معبدة بالزفت وتُنْصَبْ عليها خيم كاكية اللون من القماش الخشن. وعندما نُقِلَ جزء من المعتقلين إلى هذه الأقسام، كنتُ واحداً منهم، فنمنا على الأرض المزفّتة حديثاً، و«عانقنا» الزفت الطازج برائحته «الزكية»».
بعد 45 يوماً «مطلياً بالسواد في الاعتقال»، قرر القاضي في المحكمة العسكرية التي كانت عبارة عن خيمة سوداء لتمييزها عن بقية خيام المعتقل، أن هاني لا «يمثّل خطراً على دولة إسرائيل»، فخرج إلى شوارع رام الله التي كانت قد أصبحت كُوَمَاً من الزفت المتصلب الإسفلت هنا وهناك. وقد تفكّكت الطرقات ورجعت إلى موادّها الأولية من إسمنت وزفت ورمل بفعل الدبابات التي نفّذت الاجتياح...
عمر من الزفت يستحضره هاني اليوم من «مرسمه» الصغير في «بيته» الستاندباي، في «باريس» الستاندباي هي الأخرى... حيث حالة standby وجودية تطوّح بالمنطقة العربية وأبنائها أينما قذفت بهم مغامرة العيش وأكروبات السياسة والمزاج الكولونيالي للعالم! ولعلّه يتذكر فدوى طوقان في شيخوختها الرقيقة، وقد رآها مرة أثناء دراسته في كلية الفنون في نابلس. فدوى التي كتبت في واحدة من قصائدها «التحريضية» بعد عذاب يوم مرير وهي تحاول عبور «الجسر»: «ألف هندٍ تحت جلدي/ سوى أكبادِهم لن يُشبع حقدي»... قبل أن تعود إلى شفافيتها وبراءتها المكسورة وهي تنظر إلى حبها يحوّله الاحتلال إلى زفت (قار) وتقول في القصيدة نفسها: «قتلوا الحب بأعماقي/ أحالوا الدم في عروقي غسليناً وقار».

www.hanizurob.com