سهرة استثنائيّة أمضيناها مساء الخميس في بيروت، مع العرض الافتتاحي لـ«ألاقي زيّك فين يا علي» التي كتبتها وتؤديها رائدة طه على «مسرح بابل»، من إخراج لينا أبيض. الفضول هو الذي يأخذك إلى «بابل». تذهب منجذباً إلى موضوع المسرحية التي تستعيد، الآن وهنا، زمن الكفاح الفلسطيني المسلّح، في سبعينيات بيروت السعيدة... لكنّ ما يستبقيك هو القوة الفنية للعمل، وزخمه الإنساني، وأسئلته الفردية الحميمة، وقدرته على الانتقال من الخاص إلى العام، والجمع بين الذاتي والتاريخي.
إنّها حكاية صغيرة على هامش الحكاية الكبيرة: اختطاف طائرة السابينا رحلة ٥٧١، من قبل مجموعة فدائيين، كما ترويها من وجهة نظرها، ابنة قائد المجموعة الذي سقط وهو يقاتل الكومندوس الإسرائيلي بعد فشل العمليّة. رائدة كانت في السابعة عام ١٩٧٢، حين استُشهد والدها علي طه، تاركاً خلفه أرملة في ربيع العمر، وأربع بنات هي أكبرهنّ، سيصبحن «بنات الشهيد». بعد كل هذه السنوات (عمرها اليوم ضعف عمر أمّها آنذاك تقريباً)، ها هي المرأة الخمسينيّة التي لم تشفَ تماماً من حالة الفراغ واليتم والانسلاخ، تقف أمامنا كاشفةً عن جرحها الحميم، معرّية مشاعرها، كمن تسعى إلى استرجاع أبيها من الأسطورة. ليس هناك ما هو أكثر مأساويّة من سيرة الثوار الذين ضحّوا في سبيلنا؟ بلى هناك مصير أقربائهم الذين تركوا على قارعة الحياة. تروي رائدة ـــ كما ورد في نص تمهيدي للمسرحيّة ـــ كي تصبح ابنة الشهيد، «بمحض إرادتها» هذه المرّة.
اشتغلت الكاتبة على أرشيف والديها من الأوراق والقصاصات والوثائق والرسائل والصور الفوتوغرافيّة، وشهادات الأحياء (أمها فتحيّة الأرملة الشابة بين بيروت وعمان، عمتها سهيلة الام كوراج الباقية في القدس المحتلة). الشريكة التي بنت معها لينا أبيض عملها الجديد (لعبت في «عائد إلى حيفا» و«80 درجة»)، هي المفاجأة الفعلية في هذه المونودراما. تلفت النظر من خلال المتانة الدرامية لنص يحمل توقيعها، والغنى التاريخي والعمق الإنساني لهذا النص، وطرافته وتقنياته السردية ومستوياته، لمساته الشاعريّة التي تمزج التراجيديا بالمرح، التّلوّن في اللهجات، الشخصيات والتفاصيل الصغيرة. يأسرك أسلوبها الذي يتمحور حول ضمير المتكلّم، ومقدرة على رسم مسافة نقدية بين الأنا والنحن، بين راهن السرد وأزمنة الحكاية. هذا النفَس الحميمي وسط صخب الملحمة الجماعيّة، يعيدنا بالزمن إلى مرحلة أساسية من نضال الشعب الفلسطيني. ليست بروباغندا سياسيّة، بل مسرحيّة عن الطفولة المسروقة، عن الأب الغائب. كل ما نراه ونسمعه ونستعيده، يصلنا من خلال ذاكرة طفلة اقتلعت عنوة من سعادتها العاديّة، لتصبح حالة استثنائيّة، لتعيش يتماً مفتوحاً، باسم الوطن والقضيّة. إنّها النظرة الذاتيّة والنقديّة لامرأة كبرت مع الإحساس المتجدد باليتم والنقص والفقد. كل ذلك ولّد حاجة إلى إعادة صياغة علنيّة للحكاية. إذا كانت شهرزاد تروي لتدافع عن حياتها، فإن رائدة طه تروي لتعيد امتلاك هذه الحياة.
«ألاقي زيّك فين يا علي»،
أو رحلة البحث عن أب خلف أسطورة الشهيد علي طه


المفاجأة الأخرى، الأهم ربما، هي القدرات التمثيلية لرائدة طه، بين قوّة وعفوية وصدق وقدرة على الإقناع، وسهولة تقمّص الشخصيات والحكايات، والسفر بين المدن، والتعاطي المباشر مع الجمهور والإمساك بأنفاسه والتحكّم بمشاعره. تبدو حكواتية من الصنف الرفيع في تنقلها بين سرد وتمثيل، تشخيص وتقمص. إنّها مهمّة معقّدة في الحقيقة. تلك الممثّلة تؤدي دورها الحقيقي، وهذا يضاعف قدرتها العاطفيّة على التأثير ربّما، لكنّه يحرمها من شبكة النجاة (الروائيّة، المتخيّلة، التغريبيّة) التي يحتاجها الممثل إذ يقفز أمامنا في هذا الثقب الأسود. لعل الكاتبة/ المؤدية تدين بنجاحها المدهش، إذاً، إلى خصوصيّة التجربة: فهي هنا تمثّل نصاً من تأليفها، يروي فصولاً مؤلمة من سيرتها الشخصية التي تندرج في سياق ذاكرة جماعية، وسيرة عامة نعرف جيّداً أحداثها وأبطالها ووقائعها ومحطاتها ومنعطفاتها وأماكنها ورموزها... بدءاً بـ«الختيار»، أي ياسر عرفات الذي كانت الراوية مقربة منه، وعاشت في ظل حمايته الأبوية (غير الكافية طبعاً لتعويض غياب الأب الأصلي كما سنفهم سريعاً). القائد العام في صورة الأب؟ ها نحن في صلب البنية الذكوريّة التي تكيّف وعينا ووجداننا وحاجاتنا وتاريخنا الفردي والجماعي. الشابة الهائمة في ظلّ «بطل» غائب، تسعى إلى تعويضه بصورة القائد! إن محاولة اغتصاب تعرضت لها الراوية في أواسط عشرينياتها، ذكّرتها بأنّها «بلا سند» يحميها، أو «ظهر» تستند إليه، ووضعتها وجهاً لوجه مع حالة اليتم التي تتخبّط فيها منذ الطفولة. تلك الحادثة/ الصدمة هي المدخل إلى استعادة الحكاية بين وجعين شخصي وجماعي. بكثير من الشاعرية والطرافة والحزن، وشيء الغضب المؤجّل، تؤدّي مونولوغها الطويل المتقطّع، المستند إلى سلسلة مواقف رقيقة أو قاسية، تمزج بين الشعر والسخرية والوصف الواقعي والضحك من المأساة والعفويّة الشعبية. نذكر مثلاً حكاية العمّة مع كيسنجر في القدس، وشبح جثّة الشهيد، وقصّة الثلاجة، رسالة علي طه الوداعيّة… بين قصص أخرى الصدارة فيها للنساء في ظل البطل الغائب.
كل هذه التركة، كان على المخرجة لينا أبيض أن تواجهها وتتعامل معها، وتحولها عرضاً مسرحياً يذهب في اتجاه الحكاية، ويقف مشدوداً على حواف جرح حميم، سرعان ما سيتماهى مع جرحنا الجماعي. ليس التحدي سهلاً برأينا، إذ وقفت المخرجة بين نارين: الانسحاق تحت عبء مادة سردية جاهزة هي حياة الممثلة التي تؤدي هنا دورها الحقيقي على الخشبة... أو الدخول في منافسة مع النص ومؤديته، واللجوء إلى كل الألعاب التقنية والبهارج الجمالية والاحتفالية التي تخوّلها تطويع الوحش وترويضه. هكذا كان بإمكانها أن تفرض حضورها كمخرجة، وتسرق الأضواء من الحكاية. لكن لينا أبيض التي تملك خبرة طويلة، ونضجاً جماليّاً وفكريّاً، وجدت المعادلة السحرية التي تعطي لمسرحية «ألاقي زيّك فين يا علي» شاعريتها، وقوّتها، وملامحها المميّزة. لقد أصغت باحترام إلى الحكاية، عن مسافة قريبة. وعملت بصمت ومهارة على تأمين كل ما يغنيها بصرياً وأدائيّاً وحركيّاً، ويصنع تماسكها المشهدي، وقوّتها الشعوريّة. اشتغلت على الضوء والإيقاع والتقطيع والتنفّس وإدارة الممثل وتقنيات الحكواتي والسرد. أضافت البعد الثالث، مادة بصرية وفيديو ووثائق، صور ولقطات وثائقيّة ورسوم، معروضة على خلفية غير متجانسة، تكسّر الصور وتفككها. هكذا يأتي الخطاب البصري امتداداً للسرد الشفهي. غنيّاً بالتفاصيل الشعريّة القوية: من لقطات مقربة على اليدين أو الأقدام، أو الفناجين المكدسة، إلى زركشات سبعينيّة ورسائل وصور عائليّة بالأبيض والأسود… كما بنت ديكوراً أليفاً من أغنيات عبد الحليم وصباح. فوق خشبة «فقيرة»، رسمت لبطلتها الخلفيّة والإطار والديناميّة. وها هي رائدة بفستانها الأزرق التي يتجاوز الركبتين بقليل، تتنقّل بين وضعيات مختلفة على الكنبة الهاربة من الخمسينيات، أو تهبّ واقفة لتواكب لحظة الأزمة تارةً، أو ترقص الدبكة الثوريّة كما في الحكاية… لقد نجحت المخرجة في خلق المدى الحركي والبصري والصوتي، بكثير من البساطة والتقشف، حتى ليبدو حضورها ثانويّاً، في حين أنّه حاسم وأساسي. امّحت لينا وراء العمل حتى لا نكاد نراها. وهذا من شيم المخرجين الكبار.
نعم «ألاقي زيّك فين يا علي» لحظة نادرة في سجل المسرح اللبناني والعربي. إن قوّة الأداء، وغنى النص، ومهارة الإخراج المتقشف، وفرادة الموضوع عند تقاطع الخاص والعام... وصولاً إلى لُقيّة العنوان نفسه وأغنية صباح ولقطة العمّة المقدسية، من العناصر التي تجعلنا أمام تجربة استثنائية تستحق المشاهدة، وتحتمل النقاش... لينا أبيض التي سبق أن اشتغلت على رواية كنفاني «عائد إلى حيفا»، ماضية إلى مزيد من النضج منذ «حبيبتي رجعي عالتخت». ورائدة طه نكتشفها بفرح، كاتبةً وممثلةً. العمل الفدائي يتراءى لنا عبر ذاكرة هذه الأخيرة، على امتداد رحلة بحثها عن الأب الغائب، البطل، الشهيد... وإن كانت مقاربتها الإشكالية، تتركنا حائرين أمام سؤال مواصلة الكفاح المسلّح اليوم، بالوسائل المتاحة. هل هي صفحة طويت في نظر مؤلفة العرض المنشغلة بأسئلتها الذاتية وثأرها الحميم؟ أم أن بطلتنا ـــ مثل آن ماري جاسر في فيلم «لما شفتك» ـــ لم تُشفَ من تلك المرحلة، لذا تسائلها في ضوء الراهن، وتدفعنا للبحث عن سبل إحيائها؟
سقى الله زمن الشهيد علي طه، قائد عملية مطار اللد ١٩٧٢، الذي سقط في الطريق إلى فلسطين. «ألاقي زيك فين يا علي؟/ وانت في العين دي... والعين دي يا علي».

* «ألاقي زيّك فين يا علي»: حتى 7 آذار (مارس) ـ «مسرح بابل» (الحمرا) ـ للاستعلام: 04/521689




عمليّة مطار اللد


مساء الثامن من أيار/ مايو ١٩٧٢، حطّت في مطار اللد طائرة بوينغ ٧٠٧ تابعة لشركة «سابينا» البلجيكيّة. وأبلغ قائدها برج المراقبة أنها تحت سيطرة مسلّحين. إنّها مجموعة «وليم نصّار» التي اختارت بارادتها أن تنتهي الرحلة رقم ٥٧١ الآتية من بروكسيل في مطار اللد، في فلسطين المحتلّة، لمواجهة العدوّ في عقر داره. على متنها أربعة مجاهدين، رجلان وامرأتان، من منظمة «أيلول الأسود»، طالبوا، مقابل اطلاق سراح الرهائن، بتحرير مئة أسير في السجون الاسرائيليّة. وقع المجاهدون في الفخّ حين قبلوا بطلب الصليب الاحمر تمديد مهلة الانذار ومواصلة التفاوض وادخال الطعام الى الطائرة. هكذا اقتحمت الطائرة مجموعة كومندوس يقودها نتنياهو آنذاك، فاستشهد قائد المجموعة علي طه مع مجاهد آخر هو عبد الرؤوف الأطرش، فيما وقعت في الأسر المجاهدتان تيريزا هلسه وريما عيسى (حرّرتا في عمليّة تبادل أسرى العام ١٩٨٢). هكذا فشلت عمليّة مطار اللد (صار اسمه لاحقاً مطار بن غوريون) التي قيل إن علي حسن سلامة (الشهيد لاحقاً) هو الذي خطط لها.