في روايته الثانية «صلاة الموريسكي» الصادرة بالفرنسيّة عن «دار البرزخ»، يطرق عدلان مدي باباً قلّما طرقته الرواية الجزائريّة: عالم الاستخبارات وصراعه مع الأصوليين، وآثار الحرب في وجدان المواطن العادي
ياسين تملالي
رواية عدلان مدي الثانية «صلاة الموريسكي» La prière du Maure (دار البرزخ ــــ الجزائر) إحدى الروايات الجزائرية النادرة التي تدور حوادثها في عالم «أجهزة الاستخبارات»، فعدا الكاتب يسير بن ميلود في «التفسير» L’explication، قلّة هم الروائيون الجزائريون الذين تطرقوا إلى هذا العالم الغامض الخفي.
بطلُ الرواية الرئيسي Structure (أي «البنية» أو «الجهاز»)، هو رئيسُ «دائرة الاستعلامات والأمن»، وتؤدي هذه الهيئة دوراً كبيراً في توجيه دفّة الحكم في البلاد، في شبه استقلال تام عن السلطة السياسية. وقد ازدادت سطوتها منذ 1992، تاريخ حظر «جبهة الإنقاذ» ودخول الجماعات الإسلامية المسلحة في مواجهات عنيفة مع الجيش، لا تزال مستمرة إلى اليوم.
وقد اختار عدلان مدي لروايته حبكة بوليسية، فأحداثُها تبدأ باختفاء شاب في إحدى ضواحي الجزائر. فيقبل جو التحقيق في القضية تلبيةً لطلب قائد جماعة إسلامية أنقذه من الموت. لا رغبة لهذا المفتش السابق بالارتماء في أحضان ماضيه، فهو غادر العاصمة ومؤامراتها إلى تامنراست النائية باحثاً عن الحب والسلوان، وها هو يقع مجدداً في ما كان يحاول نسيانه: «الحرب ضد الإرهاب» وضحاياها والصراعات بين أجنحة النظام. وفيما يتعقد تحقيقُه وتتشابك خيوطه، تتوضح على مستوى هرم السلطة معالمُ مؤامرة كبيرة ترمي إلى التخلص من ستروكتور.
وتدور الأحداث في بداية 2000، في مناخ يتميّز باستمرار المساومات بين دائرة الاستعلامات والأمن والجماعات الإسلامية بهدف حضها على رمي السلاح وتوالي تصفية الحسابات بين أجنحة النظام المتصارعة على مسألة «تسيير المعركة ضد الإرهاب». ليست هذه الفترة الانتقالية بين الحرب والسلم، بين الخوف والأمان، مجردَ ديكور خلفي للرواية. هي «موضوعها» إن صحّ أن نتكلم عن «موضوع» في ما يخص الكتابة الأدبية.
وقد استغل الراوي تنقّلات جو في شوارع الجزائر لوصف جمال المدينة التراجيدي وشبح العنف الجاثم على صدرها رغم «الوئام المدني» و«المصالحة الوطنية». حتى أماكنُ التسلية فيها لا تزال تحمل بصمات الحرب: باراتها ملاذ لمفتشي الشرطة المدمنين وكاباريهاتها مرتع لكل أصناف البشر المأساوية، ضباط فقدوا أوهامهم واقتناعاتهم وصحافيون مكتئبون ومومسات أكل الدهر على مفاتنهن وشرب.
نأى عدلان مدي في بورتريه Structure عن الكليشيهات الرائجة عن «الجنرالات الجزائريين»، فـ“ستروكتور” هذا ليس «مافيوزياً» يتحكّم بشبكات الاستيراد ولا رجلاً سادياً يهوى التعذيب. هو أحد قدامى مقاتلي حرب التحرير، يؤمن بالله والوطن وبأنّه لم يكن هناك طريقة غير القمع الأعمى لتخليص البلاد من «التهديد الأصولي». ولا يمنعه هذا الاعتقاد الراسخ من أن يكون أباً عطوفاً يحب ابنته حد إلى الهوس.
ورغم أنّ عدلان مدي تفادى الكليشيهات عن «الجنرالات»، إلا أن بورتريه Structure بدا غيرَ مكتمل، فهو ليس ثمرة بناء سردي طويل النفس بقدر ما هو نتاج «بيوغرافيا» تتوالى فصولها «الموضوعية» بالتوازي مع فصول القصة. وتسمح هذه «البيوغرافيا» بتتبع مسار Structure منذ ولادته حتى اعتلائه عرش الاستعلامات، إلا أنّها غيرُ كافية للتعبير عن تعقد ملامحه البسيكولوجية.
تتضمن La prière du Maure فصلين يصوّران اهتمام القوى الخارجية بالوضع في البلاد وخشيتَها من أن تمنع الخلافات داخل الجيش، الدبلوماسية الجزائرية من أداء دور وسيط بين سوريا وإسرائيل. كان ممكناً أن تُستغل هذه الحبكة الجاسوسية استغلالاً أفضل، لكنّ الكاتب فضّل أن يجعل منها إشارة عرضية إلى قلق القوى العظمى من تعقد الوضع في الجزائر.
وتكمن إحدى ميزات رواية عدلان مدي في تطرقها لآثار فترة التسعينيات الدامية في وعي الجزائريين ومحاولتها تحليل واقع النظام المتستر وراء الدستور والقوانين: أجهزةُ استعلامات، الجيش استغل «المعركة على الإرهاب» لأداء دور رئيسي في توجيه سياسة البلاد الداخلية والخارجية، وكلُّ محاولة لسبر غورها تنتهي حتماً بصورة مأساوية.
ويبدو مصير جو في الرواية رمزاً لحقيقة بسيطة: التحقيق البوليسي الكلاسيكي مستحيل في دولة تسلطية لا وزن فيها للقضاء، ولا قوانين تحمي مفتشي الشرطة من بطش رؤسائهم. ليس جو بـ«هيركول بوارو» جزائري. لذا كان تحقيقُه ذريعةً لتحقيق من نوع آخر: سياسي عن واقع السلطة الجزائرية وإنساني عن دمار الحرب في وجدان الجزائريين.