ألفة يوسفهل تعرف «بلاد» خميّس الخياطي؟ إن لم تكن تعرفها، فأفضل طريقة لزيارتها هي قراءة «من بلادي، يوميّات مواطن عادي» الصادر بالفرنسية (L'univers du Livre ــــ تونس). وإن كنت تتصوّر أنّك تعرفها، فإنّك ستكتشفها من جديد في رحلتك عبر صفحات الكتاب. المشاهد العاديّة التي ألفتها العين، تكتسب بقلم هذا الكاتب التونسي حياةً أخرى، ينزع عنها ما تنشئه ألفة النظر من اطمئنان، يهتك اليوميّ ويعرّيه من العادة الرّتيبة ليكشفه في مظهر آخر مختلف. يكشف الخيّاطي عن ضياع الذّوق واختلاط الأنساق وذوبان الوعي، في عالم يسوده القبح على مختلف المستويات. تكاد ترى القبح متجسّداً في كلّ صفحة، يطلّ ساخراً عابثاً ضارباً عرض الحائط بتراث غنيّ لم يبق منه اليوم سوى البعد الفولكلوري الشّعبوي أو بعد التّوظيف السّياسويّ المفرغ من كلّ معنى.
من الكتاب يطلّ القبح واثقاً بنفسه، ليشمل جميع مستويات البلاد: المعماريّة والاجتماعيّة والثّقافيّة... وصولاً إلى اللباس والهيئة واللغة والعلاقات. وليس غريباً أن نلمس في كتاب الخياطي صوراً من الماضي تنبعث خافتة لتزيد من وضوح قبح الحاضر. أليس بضدّها تتميّز الأشياء؟ أما المقارنة بين بلاد الخياطي وبلدان أخرى فلا يحمل أيّ دلالة إيديولوجيّة مسطّحة، بل هو محاولة لوضع بلاده في إطارها الزّماني والمكاني، وإخفاء السّؤال الأكبر الذي يجوس في الكتاب متّخذاً أقنعة شتّى، وهو: «لماذا»؟ لماذا كلّ هذا القبح؟ قد يكون هذا الفراغ هو ما يدعو القارئ ليملأه مستعيناً بما شاء من مناهج العلوم الإنسانيّة أو مستحضراً ما شاء من الخلفيّات الإيديولوجيّة، أو ممّا أبقته العولمة منها. بينما يبدو الخيّاطي «جاحظيّاً» في أسلوبه، يرسم قمّة القبح، فتفلت منه لغته ويهرب منه أسلوبه ليبلغا من الجمال بعضاً من قمّته.
هكذا، تخرج من الكتاب غنيّاً بمتعة قراءته، معجباً بقدرة الكاتب على ترويض الصّور مشيداً ببراعة أسلوبه، لكنّك حتما تتذكّر أنّ ما تشعر به مهما يكن، لا يمكن أن يقتصر منشؤه على دواع فنّية أو أسباب إنشائيّة. إذ يكشف لك هذ الكتاب ما تودّ أن تنساه. وتكتشف فجأة أنّ بلاد الخياطي بلادك وأنّك أيضاً «مواطن عاديّ» تكتب يوميّاتك، واعياً أو غير واع، راجياً خلاصاً ممكنًا وموقناً بأنْ لا مهرب من أن تكون الكلمة هي... البدء.