العالم يحتفل بميلاده الثالث والثمانينسناء الخوري
تعلّم المثقفون السود في مدارس فرنسيّة فتماهوا مع ثقافة الرجل الأبيض. أقنعة بيضاء وضعها الرجال السود الذين استلبتهم قيم الرجل الأبيض ولغته: تلك اللغة التي كتب بها ليوبولد سنغور وإيميه سيزار أوّل بيانات الوعي الزنجي، وعي الإنسان الأسود لحقيقته وتاريخه. لم تكن اللّغة التي تكلّم بها المستعمر مع الشعوب التي استغلّها لعقود. العنف كان اللغة الوحيدة التي خاطب بها الرجل الأبيض شعوب العالم الثالث. لم تعرف البشرات السوداء من عدالة الرجل الأبيض إلّا الاستغلال وطمس الأساطير المحليّة الممنهج تحت ذريعة التحديث. كانت الأقنعة البيضاء التي ارتداها المثقّفون امتداداً لنفوذ الرجل الأبيض في البلدان المحرّرة في منتصف القرن الماضي، ومنفذاً لهداية تلك الشعوب «المتخلّفة ثقافيّاً». هكذا شخّص فرانز فانون في «المنبوذون في الأرض»، الكتاب المرجع الذي أملاه على زوجته وهو على فراش الموت، موقف المثقفين الذين أخذوا مواقف تصالحيّة مع المستعمرلم يرتدِ فانون ذلك القناع. طبيب الأمراض العقليّة الذي ولد مارتينيكيّاً في 20 تمّوز (يوليو) 1925 مات مناضلاً جزائرياً ومدافعاً عن قضايا شعوب العالم المضطهدة. عاش ابن العائلة الميسورة طفولة هادئة حيث كان إيميه سيزار أستاذه في المدرسة. دغدغت أحلامه شاباً أفكار التحرّر ومحاربة النازيّة، فقاتل عام 1944 إلى جانب قوى «فرنسا الحرّة». تجربة خذلته حين أدرك أنّ الإيديولوجيا التي اندفع من أجلها لم تكن إلا خطاباً سياسياً ينظر بنسبيّة إلى قضايا الحريّة وحقّ الشّعوب في تقرير مصيرها. ممارسات القوّات الفرنسيّة العنصريّة في المارتينيك، خلقت عند فانون وعياً وجودياً كان له دور حاسم في خياراته اللاحقة. كُتبه وممارسته الطب ونضاله ضدّ الاستعمار في الجزائر وتونس جعلت منه أيقونة المثقّف الملتزم وابن عصره، عصر سارتر. التقى فانون في الكثير من مواقفه مع فكر سارتر، إذ كان همّه الأوّل الدفاع عن حريّة الإنسان وكرامته. لكنّه لم يتماهَ مع فكر معلّمه الذي كتب مقدّمة تاريخيّة لـ«المنبوذون في الأرض»، بل خطّ لنفسه طريقاً جمع بين الفلسفة الوجوديّة والتحليل النفسي. قد تعود خلفيّة الجمع بين المنهجين إلى دراسة فانون الجامعيّة، إذ التحق بجامعة ليون الفرنسيّة حيث درس علم النفس التحليلي والفلسفة.
في 1952، صدر له «أقنعة سوداء، بشرة بيضاء» الذي أملاه أيضاً على «جوزي»، زوجته ورفيقة دربه الصحافيّة ماري ــــ جوزف دوبليه. الكتاب أطروحة دكتوراه جاءت دعوةً لتحرير الرجل الأسود من الاستلاب الذي جعله أسير ثنائيّة السيّد والعبد. ثنائيّة منعته من رؤية وجوده ككائن مستقل فاعل، بل أجبرته على فهم مصيره عبر عين الآخر الأبيض. هذا الاستلاب يتحوّل بتعبير علم النفس إلى لاوعي جماعي مشترك بين المستعمِر والمستعمَرين، ما يعوق أي عمليّة تحرر فعليّة.
تكمن أهميّة أعمال فانون في قدرته على الجمع بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي، وتحليلهما انطلاقاً من علم النفس. عندما عُيّن فانون رئيس مستشفى في الجزائر، حاول أن يقارب المرضى من خلال نظرة شاملة لوضعهم السياسي الاجتماعي. هكذا، حرّر مرضاه من قيود العلاجات التقليديّة. وانطلاقاً من اقتناعه بأنّ الهيمنة هي العامل الأساس في الاضطرابات النفسيّة، وضع هؤلاء في محيطهم الاجتماعي بدل حجزهم في غرفٍ ضيّقة. لم تكن طريقة العلاج تلك مجرّد تقدّم علمي، بل موقفاً ينسجم مع إدراك الفيلسوف العميق لمسألة الحريّة وتأثيرها على شعور الإنسان بكرامته. في المقابل، أكّد فانون أنّ المستعمَر (بفتح الميم) لم يخض معارك التحرير إلا عندما أدرك أنّه ندّ للرجل الأبيض وليس حيوانه الأليف.
وانطلاقاً من فهم الرغبة بالحريّة، انضمّ فانون إلى جبهة التحرير الجزائريّة عام 1956 بعد سنتين على اندلاع الثورة. كتاباته أدّت إلى نفيه في تونس حيث تابع نشاطه السياسي، فأسهم في تحرير نشرة «المجاهد»، وأصبح في 1957 الناطق الرسمي باسم «جبهة التحرير» التي عيّنته سفيراً لها في غانا. تركز جهده السياسي على توحيد المعركة بين دول العالم الثالث. فحركات التحرّر التي ألهبت منتصف القرن الماضي في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا مثّلت الإطار السياسي لفكر فانون الذي كان همّه الأوّل أن تجد شعوب العالم الثالث المسلوبة الثروات والقرار، مكانها بين القطبين الشرقي والغربي. لم يقتنع فرانز فانون بإمكان عزل القضيّة الجزائريّة عن قضايا «المنبوذين في الأرض»، بل كان نضاله المكثّف خلال السنوات الأخيرة من حياته يتركّز على توحيد الجهود بين كلّ حركات المقاومة. وفي كتابه الوصيّة «المنبوذون في الأرض»، فنّد أسباب العنف الثوري كنتيجة حتميّة للضغط المتولّد من القمع والاستبداد. لم يبرر فانون لجوء الشعوب إلى العنف لتحديد مصيرها، بل قال إنّ حركات التحرر تكلّمت مع المستعمر بلغته نفسها. ورأى أنّ نجاح الحركات الثوريّة لا يواجه معوقات خارجيّة فحسب، بل داخليّة أيضاً وأساساً: كالعقليّات البورجوازيّة التقليديّة في المجتمعات المحررة، والفساد في الأنظمة الحاكمة. كم ينطبق هذا التحليل على الواقع العربي الراهن! توفي فانون في 6 كانون الأوّل/ ديسمبر 1961، ودفن في مقبرة الشهداء في تونس... بعدما نجح في أن يكون كما أراد «إنساناً دائم السؤال»