باكورته تحوّلت إنجيلاً للتمرّد المعولم، وشخصية تايلر السادي باتت نمطاً لمقاومة المجتمع الاستهلاكي. وها هو يدخل مجدداً عالم المهمّشين من باب... الأفلام الجنسية
زياد عبدالله
إيفي في إعلان تلفزيوني عن شامبو، ورانت مشغول بـ«الفياغرا» الخاصة به التي يستخرجها من سمّ العنكبوت... ولا تتوقعوا من كاسي أن تظهر في الإعلانات بل في أفلام إباحية!
ليس في ما تقدّم أي هلوسة، إنّها شخصيات الكاتب الأميركي تشاك بالانيوك (1962) في روايته الجديدة Snuff التي تدور حول «ممثلة أفلام إباحية» قرّرت التقاعد بعد تحقيق رقم قياسي في ممارسة الجنس مع 600 رجل على التوالي. تتمركز أجواء الرواية في غرفة الانتظار التي تضم مَن جاؤوا لهذا الغرض، عبر سرد تتناوب عليه أربع شخصيات. ولعل بالانيوك يقارب هنا هلوسات المهووسين وعوالم المشتغلين في صناعة الأفلام الجنسية المتداعية. وهو يواصل بشكل أو بآخر ما بدأه في Fight Club (نادي القتال) أولى أعماله التي استقرت في أذهان الملايين بحرية خاصة بشّرت بها الرواية نفسها... فالحرية «أن تفقد أي أمل».
لم يفقد بالانيوك الأمل مع الرفض الذي لقيته عام 1990 باكورته «أرق» (Insomnia)، ولم يؤرقه عدم نشرها، إذ سرعان ما دمجها مع «نادي القتال» (1996)، فتحولت بعد ثلاث سنوات إلى فيلم من إخراج ديفيد فينشر. ما تبع ذلك كان مدهشاً: تحولت الرواية إنجيلاً للتمرّد المعولم، وصار الفيلم تجسيداً بصرياً استثنائياً لفصام البطل جاك. أمست شخصية تايلر ديردن المحتشد بالحكمة والبذاءة والسادية نمطاً لمقاومة عالم استهلاكي متوحش. فديردن حين يقود جاك إلى حرق بيته، يكون مخلّصه من الملكية «فما تمتلكه يمتلكك»، وفكرة «نادي القتال» نفسها التي تضم كل مهمّشي العالم، وتدمر كل شيء في النهاية، لا تكون في البداية إلا فعل مناهضة لنمط الحياة العصرية.
عمل بالانيوك الأول كان بمثابة الصاعق لأعمال توالت بلغت تسعة، وكانت الروايات الأربع الأولى («نادي القتال»، «وحوش غير مرئية»، «الناجي» و«خنق») منها بحثاً مضنياً عن الهوية، «ما دام الأدب الروائي الأميركي بدءاً من هنري جيمس وصولاً إلى سكوت فيتزجرالد محاولة لاكتشاف الذات، بهدف إعادة خلقها من جديد» على حد تعبير بالانيوك.
بعد تلك الروايات، باشر الكاتب عمليّة بَعْثرة السرد على نحو أشد تطرفاً. فهو يلتزم دوماً التنويع في زوايا الرؤية والمقاربة. وصار ولاؤه لشخصية مركزية تدور في فلكها شخصيات أخرى تحاول برواياتها المتعددة إيضاح الشخصية الرئيسة. وهذه الأخيرة غالباً ما تكتنف مجازاً لتمرّد أو فعل خارق، فتتضح معها حياة مَن يتناوبون على السرد من خلالها، وكل ما طرأ على الحياة الحديثة.
يتحدر بالانيوك من أصول فرنسية ــــ أوكرانية، راوده حلم الكتابة منذ الصغر. الآن وقد بلغ السادسة والأربعين، يكرس جلّ وقته لتأليف الروايات بين منزليه في أوريغون وواشنطن. هذا بعدما خاض في مهن كثيرة أثناء دراسته الصحافة في جامعة أوريغون عام 1986، متنقّلاً بين أن يكون عارض أفلام في سينما، وغاسل صحون في مطعم، ومشرفاً على دار عجزة، وصولاً إلى عمله مراسلاً صحافياً بعد تخرّجه. ولكم أن تجمعوا تلك المهن لتجدوها في رواياته، لا بل يمكننا استعادة اللكمات التي تلقّاها عند عمله في شركة شحن، لمعرفة جذور «نادي القتال».
يحفل أدب بالانيوك بالمعلومات. عاصف، يحتفي بالكوارث ويقدّسها، وجمله تقفز من جنون إلى آخر، والاستعارات مسكونة بتقديم أغربها. وهو لا يتقيد بالأزمنة الروائية التي تتداخل لديه، ولا تمكن مجابهة روايته إلا بالحب الكبير أو البغض الشديد. فما إن تقع في عشق أدبه حتى تسكنك عوالمه وآراؤه الفوضوية، في تجاور بين البذاءة والطهرانية، وما أن تلفظه حتى يتبدّى محتشداً بالذكورة والعنف والهذيان.
بعد رواياته الكثيرة التي أُلصقت بها «تهمة» العدميّة، سطع نجم بالانيوك المتمرّد على نمط الحياة العصرية. ولسخرية الأقدار، تحوّل إلى ماركة تعشقها المقدِّمة الشهيرة أوبرا وينفري... وبرنامجها الذي يحمل كل ما يثير سخط تايلر ديردن!