الشاشة تسترجع أسطورة الكاتبة الفرنسيّة الشهيرةعثمان تزغارت
قبل أربعة أعوام، انطفأت الروائية الفرنسية الكبيرة فرانسواز ساغان، وحيدة ومنسية في عزلة بيتها الريفي في مقاطعة نورماندي، بعدما انفضّت من حولها جموع المريدين والمعجبين، لترحل وسط لامبالاة الجميع. إذ لم تعد صاحبة «صباح الخير أيّها الحزن» تستقطب الأضواء، كما دأبت على مدى نصف قرن، ولم يعد يطاردها خلال السنوات الأخيرة من حياتها سوى الدائنين وموظفي الضرائب. حتى العريضة التي رفعتها يومها إلى الرئيس شيراك حفنة من أقرانها الكُتّاب، احتجاجاً على تكالب أجهزة القضاء والضرائب عليها، بما لا يليق بمكانتها الثقافية، ومن دون مراعاة المرض الذي أقعدها خلال السنوات الأخيرة... حتى تلك العريضة قُوبلت بالصمت واللامبالاة من الرأي العام الفرنسيفجأة، مع مطلع السنة الحالية، عادت ساغان إلى الواجهة من خلال كتابين مدوّيين عن حياتها ومسارها الفني، تلاهما فيلم سينمائي مقتبس عن سيرتها يلقى حالياً إقبالاً لافتاً في صالات العرض الفرنسية. ما دفع بمجلة «نوفيل أوبسرفاتور» إلى التساؤل: «ما الذي جعل «الوحش الصغير المحبّب» ــــ كما لقّبها فرانسوا مورياك ــــ تعود إلى الواجهة بهذا الشكل البارز، بعدما كان النسيان طواها وهي على قيد الحياة؟». تجيب المجلة الفرنسية المرموقة بنبرة لا تخلو من السخرية: «أليس هذا من نتاج «مفعول ساركوزي»؟»... ساغان، صديقة الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران الخاصة، يعيد الجمهور اكتشاف شخصيتها في عهد الرئيس ساكوزي، وينبهر بروحها المشاكسة... لأنّه يجد في طبعها المتمرد والصادم متنفساً من الراهن الخانق الذي يعيشه الفرنسيون حالياً.
ساغان كانت مدخّنة شرهة، فيما التدخين ممنوع في المطاعم والمقاهي والأماكن العامة الفرنسية منذ مطلع السنة الحالية. وهي كانت تعشق السيارات الرياضية السريعة، فيما آلاف الرادارات صارت ترصد أي سائق «مارق» يتجرأ على تجاوز السرعة القانونية المسموح بها. ناهيك بالكحول والمخدرات التي رافقتها منذ وقت مبكر، وقد باتت موضع رقابة متشددة في العهد الساركوزي. عرفت ساغان المورفين، وهي في الثامنة عشرة، حين كتبت رائعتها «صباح الخير أيها الحزن» (1954). أما المشروبات الروحيّة، فلم تقلع عنها سوى عام 1989، إثر جراحة دقيقة في البنكرياس، لتقع في ما هو أدهى: إدمان الكوكايين! ما أبعدها عن الكتابة لسنين، قبل أن تسجّل عودتها القوية سنة 1996 بآخر أعمالها الروائية الكبيرة «المرآة» المستوحى من تجربة الإدمان...
الرواج الكبير الذي يعرفه فيلم «ساغان» حالياً يتجاوز، بلا شك، هذه القراءة السوسيولوجية، وخصوصاً أنّ مخرجته ديان كوريس لم تكن في الأصل تحلم بأن يجد عملها طريقه إلى الشاشة الكبيرة. فهو في الأصل عمل تلفزيوني كان مزمعاً عرضه على حلقتين من تسعين دقيقة على «فرانس تلفزيون». وشاءت المصادفات أن شاهده المخرج والمنتج السينمائي البارز لوك بيسون، أثناء المونتاج. وإذا بصاحب «العنصر الخامس» يشتري حقوق العمل، ويطلب من مخرجته اقتباس توليفة مختلفة على شكل فيلم سينمائي من ساعتين. وقد كان حدس بيسون في محله، إذ تصدّر الفيلم إيرادات شباك التذاكر في فرنسا، وبيعت حقوق توزيعه في 29 دولة في سوق الفيلم خلال مهرجان «كان» الأخير!
كان رهان لوك بيسون صائباً، فمخرجة شريط «ساغان»، ديان كوريس، استقطبت الأضواء بفيلم آخر مقتبس من شخصية أدبية نسائية وهو «أبناء القرن» (بطولة جولييت بينوش ــــــ 1999) الذي تناولت فيه سيرة كاتبة متمردة أخرى هي جورج صاند. وحصد الشريط يومذاك نجاحاً كبيراً، على صعيد الحفاوة النقدية وشباك التذاكر. كما أن بيسون الذي أسّس في الثمانينيات شركة إنتاجه EuropaCorp، ليمثّل نموذجاً إنتاجياً أوروبياً يشتغل وفق المعايير التجارية والتسويقية الهوليوودية، أدرك أنّ «ساغان» سيستفيد من الموجة التي أفرزها النجاح العالمي لفيلم «بياف» في نهاية الموسم الماضي... وخصوصاً أنّ نقاط تشابه تجمع بين هذين العملين، فكلاهما مقتبس عن سيرة شخصية إشكالية شهدت في حياتها الشخصية والفنية تحوّلات تراجيدية جعلتها تتقلب بين أمجاد الشهرة والنجاح وآلام العزلة والمرض والإدمان...
وعلى الصعيد الفني، يجمع بين «بياف» و«ساغان» الأداء المميز لبطلتيهما. فكما أبدعت ماريون كوتييار (أوسكار أحسن ممثلة ــــــ 2008) في تقمّص شخصية إديت بياف في أدقّ تفاصليها وعاداتها وعيوبها السلوكية والجسدية، استطاعت سيلفي تيستو أن تحقّق الإنجاز الفني ذاته. إذ يخيّل لمن يراها في الفيلم أنّه يشاهد صوراً أرشيفية لفرنسواز ساغان الحقيقية بخصلات شعرها الشقراء المنسدلة التي تغطي نصف وجهها النحيف، والسيجارة التي لا تفارق شفتيها، وطريقتها الغريبة في مطّ الكلام التي تعكس شخصية إشكالية جمعت بين الطبع الخجول المتلعثم والروح النارية المتمرّدة...
ولا شك في أنّ هذا الأداء المميز يرشّح سيلفي تيستو لنيل نصيب بارز في جوائز الموسم السينمائي الحالي، وخصوصاً إذا حقّق شريط «ساغان» خلال الخريف المقبل، نجاحاً عالمياً مماثلاً لنجاحه الحالي في فرنسا.