كيف استعاد الإعلام الغربي عملية نهاريا؟محمد خير
هل يجوز أن يكون هناك وجهان لقناة إخبارية واحدة؟ فتقدم «بي بي سي» العربية مثلاً معلومات تختلف عن تلك التي تقدمها BBC الإنكليزية، وعن القضية نفسها؟ ثم هل تأسست التلفزيونات الغربية ذات اللسان العربي، لتصنع تواصلاً مع الجمهور العربي، أم لتقدّم لكلِّ مشترٍ البضاعة التي يحبّها؟ أسئلة ضرورية في سياق التغطية التي قدّمتها التلفزيونات الغربية لقضية سمير القنطار. ذلك أن بعض هذه المحطات قدمته لجمهورها أسيراً محرراً باللغة العربية، و«قاتلاً وحشياً» باللغة الإنكليزية. في لغة الضاد: كانت عمليته في نهاريا قبل ثلاثين عاماً «هجوماً يخلّد اسم جمال عبد الناصر». لكنها بالإنكليزية، على الموقع نفسه، كانت «هجوماً إرهابياً». ليس غريباً إذاً أن يشعر المتابع بأنه في «سوبر ماركت» إعلامي يحاول «إرضاء الزبون»!
من الطبيعي، والضروري، أن تختلف الرؤى ووجهات النظر. وقد يصل ذلك أحياناً إلى حد اختلاف المعلومات، وتبنّي كل جهة إعلامية لرواية معينة، تنحاز لها. لكن المدهش أن يأتي الاختلاف من داخل الهيئة الإعلامية نفسها. وعندما تكون تلك الهيئة مشهوداً لها بالموضوعية والمهنية، يفتحُ التناقض هنا باب التساؤل على مصراعيه، ويهزّ ثقة المشاهد في وسيلته الإعلامية.
في تقاريرها المنشورة على موقعها الإلكتروني، تساعد الـBBC المتابع والباحث في تصنيف المعلومات وأرشفتها، من خلال تقديم التقارير الوافية عن الأحداث الآنية، والأشخاص محل الاهتمام. من هنا، وفي تقرير بعنوان «سمير القنطار: اللبناني الذي قضى 30 عاماً في سجون إسرائيل»، يتحدث الموقع عن عملية نهاريا التي اعتقل على أثرها القنطار: «اكتُشف أمر العملية وقتل مسلحان من الأربعة كانت مهمتهما تغطية الاختطاف، وحصل تبادل لإطلاق النار، قتل فيه الإسرائيلي راهان وابنته، وأصيب القنطار بخمس رصاصات واعتقل مع رفيقه».
من المقطع باللغة العربية، يفيد موقع «بي بي سي» بوضوح بأن الإسرائيلي راهان وابنته قضيا بتبادل لإطلاق النار أثناء العملية... فكيف تحوّل التقرير على الموقع نفسه إذاً إلى صيغة أخرى تماماً، تؤكد من خلاله «بي بي سي» أن القنطار قتل راهان وطفلته؟ جاء ذلك في مقطع معلوماتي باللغة الإنكليزية تنقّل بين أكثر من تقرير، ثم وُضع في خاتمة تقرير بعنوان Funerals for Hezbollah militants. وهنا، يفيد الموقع بأن: «Qantar had been in jail since 1979 for a deadly guerrilla raid in which he killed a four-year-old girl, her father and a policeman». وهكذا، يستخدم المحرر صيغة قاطعة «he killed» (هو قتل)، مؤكداً أن القنطار «قتل طفلة في الرابعة وأباها ورجل بوليس». وليس هنا مجال لأي وفاة أثناء «تبادل لإطلاق النار» الذي أكّده الموقع نفسه للمحطة باللغة العربية. ومن «بي بي سي» إلى «سي إن إن». من البديهي أن يتخذ موقع المحطة الأميركية خطوة للأمام نحو إدانة القنطار. وعلى رغم ذلك، اختلفت الصيغة تماماً بين تقاريره بالعربية ومثيلاتها بالإنكليزية.
على موقعها العربي، نشرت CNN تقريراً بعنوان «من هو سمير القنطار؟»، يصف عملية نهاريا بأنها «نوعية بالتقييم العسكري نظراً لأن المدينة تحتوي على حامية عسكرية كبيرة، وتضم مرافق أمنية مثل الكلية الحربية ومقارّ للشرطة وخفر السواحل وقاعدة بحرية». لكن العملية نفسها تحوّلت في تقرير داخل القسم الإنكليزي بعنوان Israel, Hezbollah ready for prisoner swap، من عملية نوعية إلى «terror attack». نعم «هجوم إرهابي»!
بالمقارنة بين التقريرين، يفيد الموقع العربي في وصفه أحداث عملية نهاريا بأن: «سيطرت المجموعة على أحد البيوت، واحتجزت والداً وابنته ذات السنوات الأربع، رهائن في داخله. وتشير المعلومات إلى أن القنطار أطلق النار على الوالد على مرأى من ابنته من مسافة قريبة وألقى بجثته في البحر، قبل أن يحطم رأس البنت».
يتحدث التقرير العربي إذاً عن «تشير المعلومات»، وهي صيغة خبرية غير جازمة، وترشح الخبر للنفي إذا توافرت معلومات جديدة. طبعاً، لا يحتاج المتابع لمجهود لاستنتاج أن التقرير بالإنكليزية يضع مسؤولية القتلى على عاتق القنطار، «who is hailed as a hero by Hezbollah» (المرحَّب به بطلاً من جانب حزب الله). حتى إن CNN في تقرير آخر بعنوان Brother of convicted Lebanese killer says he>s innocent، تعيد سرد ما كتب بالتقرير العربي، لكن من دون ذكر مسألة «تشير المعلومات». إذ تتبنى الرواية الإسرائيلية لعملية نهاريا، ويتضح ذلك من استخدام الموقع الإنكليزي كلمة «القاتل المدان» (convicted killer)، بدلاً من كلمة الأسير أو السجين.