«مطرب الأمراء» يُدلي باعترافاته... وأسراره

كان يلجأ إلى أوراقه فيودعها من الآراء والمواقف ما قد يفاجئ اليوم أو يدهش أو يصدم، وخصوصاً حين يفتح النار على بليغ حمدي، أو يشبّه مذاق ألحان الشيخ زكريا بـ«متعة سائح أوروبي في الغورية». بعد 17 سنة على رحيله، الوجه الآخر لهذا الهرم الموسيقي الذي شكّك في عبد الناصر سراً... ثم أحب السادات في العلن

محمد خير
ربما يختلط الأمر على القارئ، فلا يعرف سبب اندفاعه لقراءة مذكرات محمد عبد الوهاب (1902 ــــ 1991). هل لأنّها مذكرات “موسيقار الأجيال”، الهرم الموسيقي الذي ترك في الفن العربي علامات لا تنسى؟ أم أنّ الفضول ينبع من أنّها مذكرات الرجل الذي اشتهر طوال تسعين عاماً بدبلوماسية صارت مضرب الأمثال؟ المجامل الذي لم يشتبك أو يختلف مع حاكم أو حكومة. “مطرب الأمراء” الذي لم يلتفت سوى إلى استكمال طريق مجده الموسيقي، والملحّن الذي تخلّى عن الغناء عندما شعر بتقدّم السن، تاركاً في ذاكرتنا أداءً غنائياً عبقرياً، ولم يكسر اعتزاله سوى مرة وحيدة مع لحن “من غير ليه” التي لم يلحق بها عبد الحليم حافظ، فغنّاها عبد الوهاب قبل رحيله بزمن وجيز، محدثاً انقلاباً موسيقياً أنعش الأذن العربية آنذاك (وسجالاً فكريّاً مع بداية صعود الردّة المحافظة).
مهما كان سبب اللهفة، فإن مذكّرات عبد الوهاب تغري بالإبحار فيها. أعدّها الشاعر فاروق جويدة، واستخلص فصولها من بين 600 ورقة قدمتها له الزوجة الأرملة نهلة القدسي، تطبيقاً لوصية موسيقار الأجيال. قصاصات أوراق وكراسات قديمة، أوراق فنادق ونوتات موسيقية... عاش معها جويدة عاماً كاملاً، قبل أن يقدمها في كتاب صغير الحجم تحت عنوان “رحلتي ــــ الأوراق الخاصة جداً” الذي صدر أخيراً عن “دار الشروق” القاهرية.
في المذكّرات الكثير من الآراء المثيرة والجذابة، وهي مثيرة ليس فقط من ناحية آراء عبد الوهاب في الرؤساء والحكام، لكن بوصفه هرماً موسيقياً. وربّما كانت جاذبية الكتاب نابعة، بصورة أكبر، من آراء صاحب “الجندول” في الموسيقيين المصريين الكبار الذين أثروا القرن العشرين بأنغامهم العبقرية.
بعضهم كان منافساً لعبد الوهاب، وبعضهم كان تلميذاً له. والبعض الآخر لم يكن لا هذا ولا ذاك... ومع ذلك فإن آراءه في معظمهم كانت إيجابية ومتعاطفة. لكنّ أكثر الآراء قسوة كان ضد بليغ حمدي. إذ يرى أنّ موسيقى بليغ “ومضات من الماس مركبة على تركيبات من الصفيح، أحس في ألحانه أنّه عثر على جملة تدخل في وجدان الناس لما فيها من جمال وشخصية، وقد أحاطها بأي كلام ليكون قد انتهى من عمل يحسب له”.
أما كمال الطويل، أحد أبرز أبناء جيل بليغ، فإنه “يحاول أن يفعل شيئاً لكنه لم يصل بعد إليه (...) لا ألمح فيه ومضات باهرة”. أما أستاذ مثل زكريا أحمد، فإن متعة ألحانه تشبه “متعة السائح الأوروبي الذي يتجول في الغورية”. ويضع القصبجي والسنباطي في مقارنة موسيقية ولغوية أيضاً، فالأول كان “ثائراً أكثر منه جميلاً”، أما الثاني فكان “جميلاً أكثر منه ثائراً”. بالطبع، يفرد صاحب المذكرات مساحة أكبر للمعلم والرائد سيد درويش. فالأخير “فكر، تطور، ثورة. هو الذي جعلني استمتع عند سماعي الغناء بحسي وعقلي”.
وإذ يحكي محمد عبد الوهاب عن المطربين، فلا غرابة في أن يبدأ بأم كلثوم. هي التي مثّلت “زعامة الصوت”، وكان غيابها “سبباً في هبوط مستوى الألحان”. أما فيروز، فهو يحلل صوتها قبل أن يصفها بأنّها “أكفأ مَن تغني الأغنية القصيرة، وهي تشبعني في ثلاث دقائق”، بينما تتميز وردة بأنها “صوت متوحش يغني على مزاجه”.
في عام 1924، التقى الشاب عبد الوهاب بأمير الشعراء أحمد شوقي، خلال حفلة كان يقدّمها في أحد كازينوهات الإسكندرية، وحضرها رجال الدولة والسياسة والعديد من المشاهير. ومنذ ذلك الحين، صار شوقي الأب الروحي لعبد الوهاب، فقضى معه سبع سنوات. وفي أوراقه السياسية، يبدو عبد الوهاب متّسقاً مع تنشئته الارستقراطية في بيت أمير الشعراء.
فهو يرى أنّه “من يوم أن أصبحت السياسة جماهيرية، وظهرت كلمة اشتراكية، فسد الفن”. والفارق ــــ في رأيه ــــ بين الشيوعية والرأسمالية كالفارق بين المستشفى والمنزل. فـ“المستشفى “الشيوعي” أدق نظاماً وأكثر راحة وفائدة للصحة. ومع ذلك، فإن المنزل (الرأسمالية) هو المكان الطبيعي للإنسان الذي يرتاح إليه”.
ربما كانت أكثر آراء عبد الوهاب التي تستحقّ “التخبئة” حقاً هو رأيه في عبد الناصر، وهو رأي كان يصعب حقاً إعلانه في زمن حكم الزعيم الشهير الذي يرى عبد الوهاب أنّه “كان يخطب في الجمهور وهو غير مؤمن بما يقول، ويعلم بأنّه يخدع الجماهير. ومع ذلك تصدقه الجماهير بتحمس شديد”.
طبقاً لذلك الرأي، يمكن للقارئ أن يتوقّع لعبد الوهاب رأياً عكسياً تماماً في الرئيس أنور السادات. يقول عبد الوهاب “كان أنور السادات يخطب في الجماهير وهو مؤمن بما يقول، ولا يكذب ولا يخدع. ومع ذلك كانت الجماهير لا تصدقه. وتقول عنه إنّه ممثّل كذّاب. سبحان الله”. وعلى الرغم من أنّ المذكرات خضعت لعملية “تنقيح”، إلا أنّها تحوي جهداً واضحاً في جمع الآراء وتصنيفها بعد نقلها من متفرقات القصاصات. مذكرات عبد الوهاب تستحق القراءة والدهشة أيضاً.


فاروق جويدة رقيباً... من دون تنقيح!

«رحلتي ـــــ الأوراق الخاصة جداً» الذي يضم مذكرات عبد الوهاب يقع في 159 صفحة من القطع الصغير، وهو مقسّم إلى مقدمة طويلة نسبياً (30 صفحة)، وخمسة فصول. وقد صُنِّفت فصول المذكرات حسب المواضيع («رحلتي مع الفن»، «رحلتي مع الناس»، «رحلتي مع المرأة والحب»، «رحلتي مع السياسة»، «رحلتي مع الحياة»). وبعض أقسام الكتاب تحتوي على عبارات قصيرة، منها ما يتضمّن آراء عبد الوهاب في أشخاص عرفهم وعاصرهم، إضافة إلى عبارات تلخص ما تعلمه صاحب المذكرات من المرأة ومن الناس.
قد يندهش القارئ حين يعلم أن فاروق جويدة أمضى عاماً في إعداد المذكرات، كما تشير المقدمة التي احتلت تقريباً سدس مساحة الكتاب... وبما أن عبد الوهاب رحل عن عالمنا في عام 1991، فمن الغريب أن يتأخر الإصدار إلى هذا الحد! وسبب الاستغراب أنّ «دار الشروق» لم توضح في طبعة الكتاب، أو بيانات النشر، أو على موقعها الإلكتروني، أنّ الكتاب قد صدر من قبل عن «أخبار اليوم» بعد رحيل عبد الوهاب بفترة قصيرة. واكتفت الدار بذكر تاريخ «طبعة دار الشروق الأولى»، كأنّها تعمل على طمس معالم أي إصدار سابق... وهو أمر يتواءم بعض الشيء مع طبيعة «الإعداد» الذي قام به فاروق جويدة لأوراق عبد الوهاب. إذ من المؤكد أنه نقّحها وهذّبها، كما يعترف بنفسه في المقدمة، بالاتفاق مع نهلة القدسي. يذكر جويدة أن عبد الوهاب في أوراقه كان «صريحاً لدرجة غريبة (...) قاطعاً في أحكامه، وخاصة ما يتعلق بالفن والسياسة». في موضع آخر «حاول الرجل في هذه الأوراق أن يكون نفسه، أن يفصح عن أشياء كثيرة كان من الصعب أن يبوح بها». وهو يطرح في هذه الأورق أشياء كثيرة «لم يكن بمقدوره أن يطرحها صراحة». مع كل ذلك وما يثيره من شغف القارئ، فإن جويدة يفاجئه بأن «هناك بعض الأوراق التي رأت السيدة نهلة القدسي أن لها حساسية خاصة، ورأيت أن من الأفضل أن تبقى سراً». كذلك «هناك أشياء لا ينبغي أن تنشر. وهناك أشياء أخرى لها حساسيات خاصة، لأنها تمس أشخاصاً ما زالوا على قيد الحياة. وهناك أيضاً أوراق يمكن أن تكون حيثاً بين الإنسان ونفسه، ولا ينبغي أبداً أن تصبح مشاعاً تحت أي ظرف من الظروف». هذا ما كتبه الشاعر فاروق جويدة في مقدمة الكتاب، كلمات تقول بوضوح إننا سنعرف ما سنعرف من مذكرات عبد الوهاب، عبر شباك رقابة جويدة الذي رأى أن «يتضمن الكتاب صوراً لآراء عبد الوهاب بخط يده في كثير من القضايا والأشخاص»... لكنّ الكتاب لم يتضمن مثل تلك الصور، ربما لأن المقدمة تعود إلى الطبعة الأولى القديمة، ويبدو أن المذكّرات قد نُقِّحت وجرت مراجعتها... لكن المقدمة لم تنقح!