محامي شارون ضدّ كمال بلاطه وجوزيف مسعد القدس ــــ نجوان درويش
قبل سنتين سمعنا باسم غانيت أنكوري، حين انتحلت ــــ في كتابها «الفن الفلسطيني» ــــ أطروحات الفنان والباحث الفلسطيني كمال بلاطه. وها هي تصعّد المواجهة، معتمدة في استراتيجيّتها الدفاعيّة على الهجوم. فإذا بها تلاحق بعض أبرز المجلات الفنية البريطانية والأميركيّة، وشخصيات أكاديمية مرموقة مثل جوزيف مسعد، أستاذ الفكر العربي المعاصر في جامعة كولومبيا الأميركيّة.
الباحثة الإسرائيلية التي رُقّيت بعد الفضيحة إلى رئيسة قسم تاريخ الفن في الجامعة العبرية، تُقدّم نفسها كـ«يسارية» و«صديقة للفلسطينيين». ومع ذلك، فقد وكّلت مكتب تريفور آسيرسون (www.asserson.co.uk)، الذي اشتهر بملاحقة وسائل الإعلام العالمية بتهمة الإساءة إلى صورة إسرائيل. وهو متخصص في ملاحقة الـbbc ومنشئ موقع www.bbcwatch.com الذي يراقب أخبار المحطة البريطانيّة، ويعدّ تقارير ضدها، وقد نشر Trevor Asserson أول تقاريره بعد قيام bbc بتسليط الضوء على دور أرييل شارون في مجازر صبرا وشاتيلا، ما عدّه «تحيّزاً ضد إسرائيل» من جانب تلك المؤسسة الإعلاميّة العريقةغانيت أنكوري اختارت للدفاع عن نفسها ضد تهم السرقة الفكريّة طريقة غير معهودة في العالم الأكاديمي: الملاحقة بتهمة التشهير عوضاً عن الرد العلمي بالبيّنات والقرائن. وإذا بتلك الاستراتيجيّة تنقل الفنان الفلسطيني كمال بُلاطه من موقع المعتدى على حقوقه الفكرية إلى «شخص متزمّت لا يقبل أن تكتب إسرائيليّة عن الفن الفلسطيني»!
لم تتمكن أنكوري من منع تناول القضيّة في الإعلام العربي. فعشرات الصحف والمواقع العربية نشرت وقائع الانتحال، كما تضامنت مع بُلاطه «رابطة الفنانين التشكيليين في فلسطين» بإصدارها بياناً يدين غانيت أنكوري، ويتهمها بالسرقة الفكريّة، ويرفض إهداءها الكتاب إلى الفنانين الفلسطينيين. لذا فضّلت الباحثة أن تركّز جهودها على الصحافة العبرية والأجنبية، فهدد محاميها جريدة «هآرتس»، إذ تسرّب إليه أن محررة الشؤون الثقافية بصدد الكتابة عن القضية، فكان أن عدلت الأخيرة عن الفكرة تماماً.
أما اختيارها محامياً سبق أن دافع عن أرييل شارون، فجاء ليضيف بعداً جديداً إلى المحمول الكولونيالي لمشروعها الأكاديمي من أساسه. من خلال عمليّة السطو التي قامت بها أنكوري في كتابها «الفن الفلسطيني»، إنما تحاول الاستيلاء على صوت الضحية وروايته.
وقد لاحق محامي أنكوري اثنتين من أشهر المجلات الفنية في العالم. المعركة الأولى كانت ضدّ مجلة Art History التي يصدرها «اتحاد مؤرّخي الفن» (AAH) في بريطانيا، وقد نشرت مقالاً لمؤرّخة الفن سوزان نويس بلات Susan Noyes Platt، تشير فيه إلى تورط أنكوري في عمليّة انتحال أطروحة بلاطه. وبعد الضغوط، أذعن «اتحاد مؤرّخي الفن» في بريطانيا للتسوية التي تقضي بسحب المقال من السوق والاعتذار العلني لأنكوري وتعويضها بثلاثين ألف دولار!
أما المعركة الثانية، فضحيّتها Art Journal الأميركية. نشرت المجلّة التي تصدر عن College Art Association دراسة لجوزيف مسعد بعنوان «رخصة للرسم: الفن الفلسطيني والمواجهة الكولونيالية»، عرض فيها ثلاثة كتب صادرة عن الفن الفلسطيني، من بينها كتاب أنكوري. وأظهر بالتحليل والمقارنة جهد كمال بلاطه الذي استولت عليه جانيت أنكوري في كتابها الفن الفلسطيني.
وهذه المرّة أيضاً أذعن ناشرو الـArt Journal لمحامي أنكوري، وتوصّلوا إلى تسوية لتفادي المحاكم، تقضي بأن ترسل المجلّة تعميماً إلى جميع مشتركيها بقطع مقالة مسعد من العدد الموجود لديهم! إضافة إلى اعتذار يبرّئ أنكوري يصدر في العدد المقبل من المجلة شتاء هذا العام. ودفعت المجلة لـ«أنكوري» تعويضاً قدره 75 ألف دولار!
جوزيف مسعد وصف بـ«الفعل الجبان» هذه التسوية: فتلك المؤسسة الأميركية البارزة لم تدافع عن الحرية الفكرية، وآثرت التضحية بسمعة أحد أبرز كتابها وتقديمه كبش فداء. والجدير بالذكر أن الأستاذ البارز في كولومبيا خاض خلال السنوات الماضية صراعاً مع جهات صهيونية حاولت الضغط على إدارة الجامعة لفصله، بتهم مفبركة مثل «عدائه للساميّة». لكنه تصدى لها بفضل أدائه الرفيع كأستاذ جامعي، وبفضل التضامن الواسع من زملائه في الجامعات الأميركية. لكن لا نستطيع أن نتجاهل حجم الضرر الذي ألحق أخيراً بمسعد، من جرّاء هذه التسوية التعسفية غير المسبوقة في تاريخ المجلة.
أما «السر» وراء تغلّب السيّد تريفور آسيرسون على اثنتين من أهم المجلات العالمية المتخصّصة في الفن، فوثيقة على هيئة شهادة، قدمها رسام فلسطيني ينسف ادّعاء بلاطه ويبرّئ أنكوري، ويصف كتابها بأنه «يتمتع بأعلى المقاييس الأكاديمية والأخلاقية»! ويشهد أيضاً بأن «رابطة الفنانين الفلسطينيين» قد انفضّ عنها الفنانون بعد اتفاقية أوسلو، وأن «الفنانين الذين بقوا فيها لا يمثّلون إلا أنفسهم»... وأنها «لم تعد موجودة منذ سنوات»! ويوقّع شهادته كالآتي: سليمان منصور ــــ فنان، وأحد مؤسسي «رابطة الفنانين الفلسطينيين»، أحد مؤسسي «مركز الواسطي»، محاضر سابق في «جامعة القدس».
وليس هناك من حاجة إلى دراسة معمّقة لشهادة سليمان منصور كي نكتشف أنّها مفصلة حسب رغبات المحامي... ولا شك في أن تلك الشهادة ستحدث صدمة في الأوساط الثقافية الفلسطينية والعربية. فهي المرة الأولى التي ينحاز فيها فنان أو مثقف فلسطيني ضدّ زملاء مشهود برصانتهم، لمصلحة جهة إسرائيلية... وإن كانت جهة «يسارية» مثل محامي أرييل شارون!



«قضية بُلاطه/ أنكوري»: قصّة فضيحة«الفن الفلسطيني» (2006 - Reaktion Books, London)، عنوان كتاب من تأليف غانيت أنكوري، أستاذة تاريخ الفن في الجامعة العبرية في القدس المحتلة... لكنّه أيضاً عنوان فضيحة متواصلة منذ عامين مسرحها الأراضي المحتلّة وأوروبا وأميركا. بدأت القصة في عام 2006، حين تملّصت الأكاديمية الإسرائيلية من اطلاع كمال بلاطه على مسودة كتابها، كما اشترط عليها، كي يجري معها سلسلة حوارات عن تجربته الفنية وتاريخ الفن الفلسطيني. هكذا اكتشف بلاطه أن الكتاب ينتحل «الأطروحة المركزية التي قضى 3 عقود في تجميع تفاصيلها والتدقيق فيها قبل نشرها».
صدر الكتاب فأثار وابلاً من الانتقادات، والمواجهات الحادة فوق المنابر الأكاديمية والإعلاميّة، وحملات التضامن مع الفنان والباحث الفلسطيني المعروف. اليوم تصعّد أنكوري المواجهة، وتلاحق منتقديها، مهددة بمقاضاة كلّ من يتناول القضيّة. طال هذا الهجوم بعض أبرز المجلات الفنية البريطانية والأميركيّة، وشخصيات أكاديمية مرموقة مثل المثقف الفلسطيني جوزيف مسعد. وتعتمد أنكوري «التقدميّة» و«صديقة الفلسطينيين» على خدمات محامٍ إسرائيلي خاض معركة قانونيّة ضدّ الـ«بي بي سي» في 2002، بعد بثها تقريراً عن مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982، يشير إلى تورط أرييل شارون فيها، وإلى الدعوى التي رفعها بهذا الصدد ناجون من المذبحة ضدّه أمام القضاء البلجيكي.