في معرض دراسته للعوامل التي تؤدي إلى صنع شخصيّة الديكتاتور وديمومته، يستعين سلام عبّود بأحداث وشواهد تاريخية وأقاويل سياسيّة... إلا أنّ كتابه «من يصنع الديكتاتور؟ صدام نموذجاً» ظلمَ الشعب العراقي في العديد من الأماكن
حسين السكاف
«صدام حسين كديكتاتور، لم يحقق سماته الفردية الاستثنائية من دون وجود جيش من المثقفين والكتّاب قاموا بصناعة صفات الديكتاتور، لأن الديكتاتور لا يصنع صفاته كلها بنفسه». قد تمنح هذه العبارة المختصرة، بعض الوضوح للصورة البحثية التي يقدمها الكاتب والروائي العراقي سلام عبود في «من يصنع الديكتاتور؟ صدام نموذجاً» (دار الجمل). الكتاب هو الثاني من نوعه لعبود، لجهة المادة البحثية والشواهد والأسس التي اعتمدها، بعد «ثقافة العنف في العراق» (2002 ــــ دار الجمل).
يسطّر سلام عبود في كتابه الجديد، أحداثاً وشواهد تاريخية وأقاويل سياسية منتقاة ليصل إلى حقيقة صنع ديكتاتور بوزن صدام حسين... هذا الموضوع الشائك الذي قلب الكثير من الموازين بدءاً من الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية، وصولاً إلى بوادر تغيّر جدية في الخارطة الجغرافية للمنطقة. يحاول عبود من خلاله أن يصوّر الديكتاتور كأنه نبتة انبثقت في أرض خصبة تتمثل في المجتمع العراقي وتاريخه! ويسلّط الكتاب الضوء على شواهد تاريخية لفترات زمنية مختلفة، منها ما هو معاصر، يتعلق بتركيبة المجتمع العراقي وتكوينه النفسي والاجتماعي والسياسي، أكثر مما يتعلق بصدام حسين.
الكتاب يعتمد اتجاهين لصيقين: «بنية المجتمع العراقي» و«بنية الديكتاتور». وكثيراً ما نجد المادتين اجتمعتا في عبارة واحدة أو موضوع واحد، وخصوصاً حين يضع الكاتب أمامنا العديد من الظواهر التي طرأت على المجتمع العراقي منذ بداية الحكم الديكتاتوري حتى يومنا هذا، ليسلط الضوء على تلك القوة التي صنعت الديكتاتور وأدّت دور البوابة الواسعة لتنفيذ كل مخططاته. من بين تلك الظواهر، ظاهرة «أسوأ الاحتمالات» التي وصفها بأنها نظرة المجتمع إلى الواقع عبر إجراء مقارنات دونية لا يمكن أن توصف إلا بحالة إذلال مستشرية داخل النفوس، وذلك من خلال المفاضلة بين شر وشر، قاتل وقاتل، إيران أم أميركا، صدام أم بوش، القاعدة أم المحافظون الجدد... ثم ظاهرة «استخدام التاريخ مادة لتثبيت التهم، لا موضوعاً للدراسة».
والحقيقة أنّ تلك الظاهرة ليست وليدة الفترة المذكورة، بل تضرب جذورها في القدم، لكنها استشرت خلال نظام البعث، وازدادت شراسة بعد احتلال العراق وظهور التحارب الطائفي والعرقي بين أبناء العراق من جهة، وبينهم وبين القوى المتسللة من وراء الحدود من جهة أخرى. وهناك ظاهرة ثالثة لا تقل خطورة عن سابقاتها هي «رجال الثقافة والأدب والفن الذين يضعون مهاراتهم في خدمة جهاز الشر» أي نظام صدام. وعن هذه النقطة، يقول المؤلف: «طغيان واسع وطويل كطغيان صدام حسين اقتضى وجود جيش كبير من المعاونين الميتِي الضمير، يمتهنون مهناً مختلفة، تبدأ بقيادة فرق الإعدام وتنتهي بالمنشدين الشعبيين من مروّجي ثقافة العنف ومنظّري ثقافة الموت والحرب والخراب». أما ظاهرة «الوشاة»، فحظيت بشرح وافٍ ودقيق لتبيان دورها الخطير الذي راح ضحيته العديد من أبناء العراق، مثقفين وفنانين وصولاً إلى البسطاء منهم. وتتلخص تلك الظاهرة في زرع عيون استخبارية أطلق عليها الكاتب تسمية «جيش الوشاة» في كل مكان حتى بين أفراد العائلة الواحدة. والكاتب، إذ يطرح هذه الظواهر وغيرها من المتناقضات كونها أسساً لصناعة الديكتاتور وديمومته، فإنه يريد أن يُبرز سلسلة واسعة من التناقضات الاجتماعية والسياسية، كي يصل إلى غاية الكتاب وهدفه، فيقول إنّ «كشف باطن الديكتاتورية ومحتواها الداخلي، مهمة وغاية أساسية من غايات هذا الكتاب». وهنا استخدم عنصر التشويق ليسحب القارئ بالمقارنات والدلائل إلى هدف الكتاب وغايته.
يمتلك سلام عبود مشروعاً مهماً كباحث في تركيبة المجتمع العراقي، وقد حاول في كتابه أن يمنح حيّزاً مهماً لهذا الجانب. إلا أنه سرعان ما اصطدم بالواقع السياسي الذي سحبه بعيداً عن مشروعه ذاك. حتى إنّ أغلب الكتب السياسية التي تناولت تأثيرات السياسة على المجتمعات، كانت تغفل دوماً، ما يفكر فيه الإنسان البسيط الذي يمثّل نسبة الأغلبية في المجتمع، بل هناك دراسات حمَّلت ذلك الإنسان تبعات التناحرات السياسية وكوارثها. ولم ينجُ كتاب سلام عبود من هذا، إذ اعتمد شواهد تاريخية ظلمت الشعب العراقي، مثل اتهامه بدم الحسين بن علي بن أبي طالب وغيرها الكثير.
يطرح الكتاب أسئلة عديدة، هي في الحقيقة أسئلة الشارع العراقي الذي بات لا يعرف من الحقائق سوى حقيقة جزعه من وعود كاذبة تطلقها أفواه عديدة من خلال المنابر الإعلامية المتعددة.. «هل الخروج من (عمالة) صدام يبيح لنا إعطاء صفة الشرعية لأي (عمالة) أخرى، يعرضها علينا أول عابر سبيل، أو غازٍ قوي؟»، «هل يحق لنا أن نعيد تاريخ القتل بقتول جديدة؟ وهل يحق لنا أن نتفنّن في قتل الناس، مهما كانت جرائمهم؟». صحيح أنّ هذه الأسئلة تبتعد عن عنوان الكتاب ومضمونه وتتناول الفترة التي تلت سقوط الديكتاتور، إلا أنّها تُعدّ الهمّ الحقيقي الذي يشغل الشعب العراقي ـــــ مادة البحث ـــــ منذ زمن.
وأخيراً يحق للقارئ أن يسأل: ترى من يصنع الديكتاتور؟ هل الشعوب المغلوبة على أمرها، أم هو صنيعة القوى السياسية التي تدعمه بالمال والسلاح والدسائس؟