نوال العلييتحوّل الأب إلى غريب، يقابل الكأس التي ستلقي به إلى حتفه، وفي تلك اللحظة، تنفرد الأم بصغارها، تسرد الحكايات لتخرج بهم من المأزق الليلي الذي يقف فيه الخمر حاجزاً بين العائلة والوالد. هذا هو المشهد الأول من رواية مي منسّى الجديدة «الساعة الرملية» (رياض الريس). هذه العزلة وكل ما يعادلها من صمت ليست إلاّ المحرك الأساسي للشخصيات والأحداث. سارة المتحدثة الأولى في العمل، والابنة الكبرى للعائلة، ستبحث في ماضي والدها بعدما انتحر «بالكأس التي يفرغها دفعة واحدة في شرايينه، ليسكت الخوف والقلق». تفتش الابنة في ما وراء عدمية الأب، فتكشف تاريخاً منها، منطلقةً من محتويات علبة نحاسية: رزمة صور، رسائل قديمة... لكن منسّى تصعّب المهمة على شخصيتها وتغرِق القارئ في أجواء مغبّشة بالأسرار: الأسرار في علبة نحاسية، العلبة في حقيبة جلدية مخبّأة، الأوراق صفراء قديمة أو زرقاء من الرطوبة. إذن، هناك سطور مفقودة وكلمات ضائعة، على سارة إيجادها. وعليها أيضاً مهمة التذكّر الصعبة، كالحديث عن الجدة مرجان التي لن تغفر لابنتها هند (الأم) زواجها برجل مجهول النسب نادر (الأب)، واسترجاع تفاصيل الطفولة مع شقيقها ألكسندر وشقيقتها الصغرى لينا وأجواء الحرب الطائفية، والأب الذي لم تجد مكاناً تدفنه فيه.
ترمي صاحبة «أنتعل الغبار وأمشي» بثقل الأحداث على سارة. كيف لا؟ والأم تعاني انهياراً عصبياً بعد وفاة الوالد، ولينا مشغولة في البحوث الأركيولوجية، بينما تقوم سارة بمهمة أركيولوجية من نوع عائلي: الكشف عن ماضي الأب. أما الأخ الوحيد ألكسندر، فيسافر إلى فرنسا لدراسة الطب ويموت هناك، تاركاً حبيبة من ملّةٍ أخرى حاملاً بطفل، ستتخلى عنه رضيعاً لسارة كي تربيه.
في الجزء الثاني من الراوية، ينتقل الخطاب من سارة إلى الأب، فيصبح هو المتكلم عبر مذكراته وأوراقه. تتزامن ذكريات طفولته عن عائلته بثورة الفلاحين ضد العثمانيين واختفاء والده البلشفي الميول. وتدور الأحداث في بدايتها في كيليكيا، وهي منطقة تهجّر كثيرٌ من أهلها إلى لبنان بعد وقوع مذابح الأرمن. وفي هذا الجزء، تحتفظ صاحبة «المشهد الأخير» بالدرجة نفسها من العاطفة واللغة. لكنّ السرد يتغير بما تحمّله منسّى من أسطرة للشخصيات؛ فتمار شقيقة نادر الأب، الطفلة القادرة على كشف المصائر والخفايا، ينتهي بها الحال قتيلةً في نهر. ولكل وصف في مذكرات الأب معنى قدري غامض، فالغراب نذير يحط على سطح المنزل... تتغيّر حياة نادر بعد وفاة والدته وهروبه مع النازحين، حيث يلتحق بمدرسة داخلية تابعة لدير قديم في لبنان، فيعمل مترجماً ثم صحافياً.
تنتهي الرواية بسارة تنشر مذكرات والدها في كتاب. أما لينا، فتغادر إلى كيليكيا تتقصى جذورها، حيث تموت بنوبة صرع حادة على ضريح عائلتها. تقول منسّى على لسان لينا «ثمة كتب تغلق عالماً. هي نقطة النهاية لكل شيء... كما هناك كتب تفتح لنا أبواب بلد». وإن كانت مذكرات نادر فتحت لسارة عالماً كانت تجهله عن جذورها، فما الفائدة من معرفة أب مفقود، ووطن مجهول، وذكريات باتت أقرب إلى الخيال. لقد أحالتها هذه المعرفة إلى مصير مشابه لمصير والدها؛ الوحدة المطبقة واكتمال الفقدان.