تظاهر ضد غزو العراق، وتحرّك لإغاثة الفلسطينيين في غزّة. وتضامن مع فقراء «جزيرة الذهب»، وصرخ في ندوة: «لسنا حميراً يا سيادة الوزير»...

محمد شعير
فوجئ حرس الرئيس جمال عبد الناصر بالمخرج الشاب يوسف شاهين يقتحمهم، ليصل إلى «الرئيس» مع ضيفه الروسي خروتشوف، أثناء الاحتفال بتفجير الجبل الغرانيتي في أسوان لتحويل مجرى النيل (1964). همس شاهين في أذن الرئيس بلهجته المرتبكة: «لو سمحت، لا تضغط على الزر إلا بعد ما أقولك. أوكي؟». ابتسم عبد الناصر موافقاً، وبعدها بثوان قال شاهين: «أوكيه يا ريّس»، فضغط عبد الناصر على زر التفجير، ليصوّر شاهين أحد مشاهد فيلمه «الناس والنيل» (1968).
قصة ذات دلالة، لا تكشف فقط عن «دقة» جو و«حرصه» على مشاهد أفلامه، بل توضح إلى أي مدى وصل «انفلاته» الإبداعي حتى أمام شخصية بقوة عبد الناصر وحضوره، الذي لم يغضبه ما حدث، بل ابتسم له. «المنفلت» ربما كانت الكلمة هي أصدق وصف لشاهين. وربما كانت تلخيصاً لحياته الإبداعية منذ فيلمه الأول «بابا أمين»، وحتى فيلمه غير المكتمل «الشارع لنا» أو حتى على مستوى الممارسة الحياتية: لم يتردد أن يتقدّم الصفوف في التظاهرات ضد الغزو الأميركي للعراق، وتناله هراوات الشرطة، أو يذهب إلى الحدود مع قوافل لإغاثة الفلسطينيين من أجل أن يسمح لها بالدخول. كان أول من يحضر إلى «جزيرة الذهب» المهدّد أهلها الفقراء بالطرد من أجل إقامة أبراج للأغنياء. لم يكن غريباً أن يصرخ في ندوة عامة عن أزمة السينما ضد وزير الثقافة: «لسنا حميراً يا سيادة الوزير»... أو أن يعلن أثناء انتخابات الرئاسة أنه سيهدي للصحافيين وطلبة الجامعة «نبابيت» لمواجهة دروع الأمن وبلطجتهم. وهي الفكرة التي أصبحت فيما بعد فيلمه الأخير «هي فوضى» الذي عدّه النقاد صرخة ضد «السلطة المطلقة» باعتبارها «مفسدة مطلقة»!
هكذا هو يوسف شاهين، احتفظ طوال سنوات عمره التي طويت أمس بروح المناضل وقوة الموقف. لكن الأهم لديه، لم يكن نقد الحكومة أو معارضة النظام. معركته الأساسية الكبرى كانت إبداعية بالأساس. وهو يكاد يكون المخرج الوحيد الذي احتفظ بالروح التجريبية في كل فيلم من أفلامه، بداية من «بابا أمين» أول هذه الأفلام الذى جرّب فيه الشكل الفانتازي، حيث يراقب «رجل ميت» ما يحدث لعائلته من تغيّرات بعد رحيله، بعدها كانت مرحلة الواقعية التي انشغل فيها بقضايا الفلاحين والعمال والإقطاع في ثلاثة أفلام («ابن النيل»، «صراع في الوادي»، و«صراع في الميناء»)، ثم جاءت مرحلة الكوميديا الغنائية في فيلمه «أنت حبيبي».
لكن النقلة الأهم فى مشروع شاهين، حسبما يرى الناقد أحمد يوسف، كانت مع فيلمه: «باب الحديد» الذي «جاء ليقدم بصراحة ووضوح القضية التي تشغل شاهين، وكان يلمسها لمساً رقيقاً في أفلامه السابقة: المسافة التي تفصل بين الفنان وواقعه التي عبّر عنها في هذا الفيلم عبر التناقض الأسلوبي بين عالمين متناقضين». تأمّل البناء الدرامي للفيلم يكشف حسب يوسف «صراع كل فنان مع مادة موضوعه. فالفنان يحاول دائماً أن يقتنص الواقع لكي يضعه في عمله الفني، وإن كان هذا الخطر يكمن في أن يجعل هذا الاقتناص من الواقع مادة جامدة خالية من الحياة».
واستمر التمرد الإبداعي، لكن المؤسسة الرسمية تحاول تدجين الفنان، ويدخل شاهين في صراع معها ويقرر الهروب. ربما كانت هذه المرة هي الأولى التي يتخلى فيها جو عن المواجهة ليسافر في منتصف الستينيات إلى بيروت، ويؤسس هناك بيتاً ويشترى سيارة، ويخرج «بياع الخواتم» و«رمال من ذهب». لكنّه قرر أن يترك كل ذلك خلفه عندما التقى الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل الذي أخبره «ارجع... الريّس يريدك». بعدها مباشرة يحدث زلزال حزيران (يونيو) 1967، ليبدأ مرحلة إبداعية جديدة تحمل السؤال أكثر مما تحمل إجابات. كان سؤالها: لماذا حدثت الهزيمة؟ وليبدأ مرحلة تجريبية جديدة ضمّت أفلاماً كـ«الأرض»، «الاختيار» و«العصفور». وبعد أزمته الصحية التي استدعت إجراء جراحة قلب مفتوح، بدأ بكتابة سيرته الذاتية سينمائياً، ولم تكن سوى سيرة «وطن» يبحث عن حريته. الحرية والتمرد إذاً كانا هاجس كل أبطاله. رحلته الفنية، كما يقول أحمد يوسف، « صاعدة دائماً نحو الحرية، بمفهومها الأشمل، السياسي والإنساني والفني، رحلة مناضل بطريقته الخاصة من أجل حرية السينما وحرية الإنسان».