الأرض» (1969) يعدّه كثيرون أعظم فيلم مصري على الإطلاق، و«باب الحديد» (1958) كان ثورة سينمائية في زمانه... إذا اخترنا قائمة أفضل عشرة أفلام في السينما المصرية، فربما احتل يوسف شاهين نصفها على الأقل
محمد خير
في لحظة الفوضى الشاملة، اختار يوسف شاهين أن يغيب. فيلمه الأخير لم يحقق رضى النقاد، لكنه نجح في شباك التذاكر لأول مرة في تاريخ «جو». مجنون السينما الذي كثيراً ما أفلس المنتجين بأفلامه العظيمة، يبدو أنّ النجاح التجاري كان الأمنية الدفينة التي أخذ يؤجلها مراراً. وما إن حققها في «هي فوضى» حتى غاب، أم تراه صنع فيلم الفوضى عندما استشعر قرب الغياب؟ لم يعتد يوسف شاهين أن يقدم الأجوبة، الرجل الذي ظل يفجر بجنونه، اعتاد أن يفجر الأسئلة باستفزازية لا تلين.
من يريد تلخيص «شاهين» في أرقام فليبحث عن مراده في الموسوعات، هي مليئة بالمعلومات عن إنجازه السينمائي. نكتفي هنا بأهمّ الأهم، 12 فيلماً من إخراجه في قائمة أفضل 100 فيلم مصري. احتل بذلك المركز الأول في القائمة متقدماً على صلاح أبوسيف، لكن الأرقام لا تعبّر دائماً عن الحقيقة. إذ إن تلك النسبة (12 في المئة) تعطي دلالات غير دقيقة تماماً، فلو اختيرت قائمة أكثر «تلخيصاً» ولتكن أفضل عشرة أفلام في السينما المصرية، ربما احتل يوسف شاهين نصفها على الأقل. يكفي للتأكد من ذلك، أنه رغم ارتباط شهرته بأفلام سيرته الذاتية (حدوتة مصرية/ اسكندرية ليه/ اسكندرية كمان وكمان)، فإن تلك الأفلام على أهميتها، لا تتضمن الروائع الأخرى، وعلى رأسها «الأرض» (1969) الذي يعده كثيرون أعظم فيلم مصري على الإطلاق. «باب الحديد» (1958) الذي عدّ ثورة سينمائية في زمانه، « الناصر صلاح الدين» (1963) الذي لا يحتاج إلى تعريف، وكذلك «عودة الابن الضال» (1976) «العصفور” (1972) و«الاختيار” (1970) كل ذلك دون أن نُدخل في الحسبان أفلاماً أخرى رائعة مثل «اليوم السادس» (1986) «الوداع يا بونابرت» (1985).
في الواقع، روائع شاهين احتلت نسبة كبيرة من إجمالي أفلامه (41 فيلماً)، حتى مع استبعاد أفلام مهمّة مثل «صراع في الوادي» (1953) و«جميلة بوحيرد» (1958) ولم تنتقص من نسبة روائعه سوى الأفلام التي قدمها في السنوات الأخيرة، بدءاً من «المصير» (1997) عندما بدا للنقاد أن تلك ليست أفلام «جو» الذي يعرفونه. بينما كانت تلك هي المرحلة التي بدأ فيها المخرج العالمي تذوّق النجاح الجماهيري. ربما كان لجائزة مهرجان «كان» دور في ذلك النجاح، وخاصة أنّ الدعاية لم تساعد الجمهور على التمييز بين جائزة «السعفة الذهبية» وجائزة «اليوبيل الذهبي» للمهرجان. على كل حال، فإن الجائزة كرست لدى الجمهور مفهوم «عالمية» يوسف شاهين، تماماً كما فعلت جائزة «نوبل» مع نجيب محفوظ قبل ذلك بتسع سنوات، وكما فعلت هوليوود مع عمر الشريف الذي هو اكتشاف شاهين نفسه وخريج مدرسته نفسها في الإسكندرية.
لكن التجربة الشاهينية لا يمكن اختصارها في موهبة رجل واحد. فكما كانت قاهرة القرن العشرين حاضنة المواهب الفنية والثقافية العربية، وكما كانت «أم كلثوم» حاضنة تجارب عباقرة الموسيقى الشرقية، فإن أفلام يوسف شاهين لم تكن مجرد تجربة رائدة في تطوير مفهوم «الصورة» في السينما العربية، بل بدورها صنعت كيمياء بين عناصر فائقة الموهبة، إذ يكفي أنّ «عودة الابن الضال» قد شهد التعاون الوحيد بين الشاعر صلاح جاهين والموسيقار بليغ حمدي، فضلاً عن حوار صلاح جاهين الذي يكاد ينطق شعراً. كما أنّ أفلام «الأرض»، «الاختيار» وغيرهما، شهدت تضافر خبرات وتعاون عدد من أعظم الأدباء المصريين، على رأسهم نجيب محفوظ، عبد الرحمن الشرقاوي، يوسف السباعي وغيرهم، والموسيقيين الذين منهم كمال الطويل، سيد مكاوي وعلي إسماعيل. علماً أن الأخير كتبت زوجته الشاعرة نبيلة قنديل كلمات أغنية فيلم «الأرض». ويبقى ليوسف شاهين فضل أنه بجهده الخاص، قد جمع أولئك المبدعين في تلك التجارب السينمائية المضيئة. كما لم يستكن إلى توافر مواهب التمثيل العظيمة في أجيال الستينيات والسبعينيات، فأعاد اكتشاف محمود المليجي ليقدم معه وبه عدداً من أهم أدوار السينما المصرية، أشهرها «محمد أبو سويلم» في فيلم «الأرض» وصنع الأسطورة الفنية للفنانة محسنة توفيق التي تحولت بها إلى «بهية». أما محسن محيي الدين، الموهبة الطاغية التي اختارت الاعتزال، فلم يفلح يوسف شاهين في تعويضها وكان يعرف أنه لن يفلح.
هناك من يغيبون فيفتقدهم المصريون بشراً وهناك من يغيبون فيفتقد المصريون أهراماً، يوسف شاهين من النوع الأخير. في غيابه تزداد مصر غربةً.


«لسّه الأغاني ممكنة»

كانت «الأغاني ممكنة» في سينما يوسف شاهين. لم يستخدم هذا الأخير الغناء ليملأ فراغاً أو ليزيد من الأدوات الفنية المستخدمة في العمل... بل كان يختار اللحظة المناسبة والكلمة المناسبة التي ستفتح لهذا النمط الفني باباً منطقياً ومبرراً لوجوده، حتى يشعر المتلقّي بأنّه كان بحاجة إلى سماع هذه الأغنية في هذه اللحظة بالذات. لهذا كله، لم يكن شاهين يترك شعراء الأغاني يكتبون من دون تدخل منه، فكلماتهم موجودة لأن لها ضرورة، وهو يشير على الشعراء بأن يكتبوا في هذا الاتجاه، لا في غيره، ويوضح لهم علاقة قصيدتهم بالسيناريو والشخصيات.
والمغنّون كانوا دائماً جزءاً لا يتجزأ من أعماله. من منّا لا يذكر صوت الكورال وهو يردد «الأرض لو عطشانة» من كلمات نبيلة قنديل وألحان علي إسماعيل، فيما صورة محمود المليجي غارقاً بدمائه تملأ الشاشة. هل كان يمكن أن يكون هذا المشهد دون هذه الكلمات. الشاعرة والموسيقي نفسيهما سيجتمعان مرة أخرى في فيلم «العصفور» ليقدما معاً أغنية «راجعين» التي باتت أغنية عبور الجنود المصريين (1973). من العصفور أيضاً نذكر أغنية الثنائي إمام ــــ نجم التي اقترنت بالفيلم: «مصر يمّه يا بهيّة/ يم طرحة وجلابيّة»...
تعامل شاهين مع أشهر كتّاب الأغاني والملحنين والمطربين العرب، مثلما وظّف الأغنية الشعبية أيضاً، كما في فيلمه «ابن النيل» حيث حضر المطربان الشعبيان يوسف صالح وسميحة توفيق. وربما كانت سينما شاهين مسؤولة عن تقديم الفنانين بصورة ثقافية تملك موقفاً سياسياً وفكرياً محدداً، مثل أغنية «مفترق الطرق» لماجدة الرومي في «عودة الابن الضال» التي وصفت، بحسب كاتب العمل صلاح شاهين، بـ«واحدة من أروع الأغنيات التي غنتها الرومي» من ألحان كمال الطويل.
أما محمد منير، فقد أتاح له ظهوره في «حدوتة مصرية» و«المصير» أن يبرز طاقته المسرحية، فتألّق من دون رومنسية فاقعة، بل بعصبية وموقف حاد من كل ما يجري من حوادث، فقدم «علِّ صوتك» تأليف كوثر مصطفى وألحان كمال الطويل. مثلما بدت لطيفة التونسية مطربة مختلفة تماماً مع شاهين، واشتهرت بأغنية «تعرف تتكلم بلدي» في «سكوت حنصوّر» من كلمات جمال بخيت وألحان عمر خيرت.
بهذا المعنى استثمرت سينما شاهين طاقات المبدعين، حوّلت مغنّين إلى ممثلين، فالمبدعون مهما كان مجالهم عنصراً سينمائياً قيد التفكيك والمفاجأة.