عثمان تزغارتترك يوسف شاهين بصماته المميزة في مسار السينما العربية والعالمية، على مدى ستة عقود من الإبداع قدّم خلالها أفلاماً تنوعت بين الواقعية النقدية في الخمسينيات («ابن النيل»، «صراع في الميناء»، «باب الحديد»...) إلى السينما السياسية التي صنعت شهرته، بدءاً بـ «جميلة الجزائرية» (1958)، ووصولاً إلى «الأرض» و«العصفور» و«عودة الابن الضال» التي قدّمها في النصف الأول من السبعينيات، ثم «اليوم السادس» و«وداعاً بونابرت»، في الثمانينيات. وفي خلال ذلك، قدّم شاهين ثلاثيته الأشهر التي مزج فيها بامتياز بين السيرة الذاتية والهم السياسي والاجتماعي، وطرح جانباً الأساليب الحكائية التقليدية لحساب لغة بصرية مكثفة خوّلته الوصول إلى «العالمية» التي كان يتطلع إليها، وفرضت نهائياً مكانته في مصافّ كبار صنّاع الفن السابع. فبعد «إسكندرية ليه؟» (1978)، قدّم «حدوتة مصرية» (1982) ثم «إسكندرية كمان وكمان» (1989). في عام 2004، قدّم فيلماً رابعاً أراده امتداداً لهذه الثلاثية، وهو «إسكندرية ــــ نيويورك». لكن النفس النضالي المعادي للإمبريالية الأميركية غلب على هذا الفيلم، بحيث لم يرقَ فنياً إلى اللغة السينمائية لـ «الثلاثية» التي أبهر المعلّم الإسكندراني الكبير من خلالها جمهور وصنّاع السينما العالمية على السواء.
ولم يكن شاهين سينمائياً كبيراً، مجدّداً ومبدعاً فحسب، بل كانت له مواقف نضالية وآراء سياسية مدوّية. في عام 1994، اصطدم بالحركات الأصولية المتطرفة، على أثر فيلم «المهاجر»، ما دفعه إلى تقديم فيلمه الأشهر «المصير» الذي استعاد فيه فكر ابن رشد وشخصيّته للمرافعة ضد التطرف والظلامية، الذي نال عنه جائزة الذكرى الخمسين لمهرجان «كان»، سنة 1997. واحتلت السياسية مكانة مركزية في أعمال المرحلة الشاهينية الأخيرة، من «الآخر» (1999) إلى «سكوت هنصوّر» (2001) و«إسكندرية ــــ نيويورك» (2004)، وأخيراً، «هي فوضى» الذي قدّمه الخريف الماضي، وكان أول عمل سينمائي تجرأ على طرق قضية العنف البوليسي في مصر.
على رغم المصاعب الصحية المتعددة التي عاناها شاهين منذ 2001، فإنّه نجح من خلال هذا الفيلم الأخير في تحقيق أحد أحسن أعماله منذ «الثلاثية». «هي فوضى» عاد بمحبي السينما الشاهينية ــــ بعد طول انقطاع ــــ إلى ألق «المرحلة الواقعية» التي صنعت تميّزه، ليطوي السينمائي المصري الكبير قبل رحيله، صفحة «المرحلة الخطابية» التي جعلت أفلامه، منذ «المصير»، تغلِّب النضالية الفكرية على الجوانب الفنية والحسّية، بسبب المعارك السياسية الجريئة التي خاضها، إثر زوابع الجدل والتكفير التي صاحبت محاولة حظر فيلمه «المهاجر».
لم يتخلَّ يوسف شاهين في هذا العمل الأخير عن النبرة النضالية والمرافعة السوسيولوجية التي اشتهر بها ضد مختلف مظاهر الظلم والقمع والاستبداد، حيث تناول عدداً من القضايا الساخنة التي تشغل المجتمع المصري، كالفساد السياسي والاقتصادي والعنف البوليسي، إلا أن الميزة الأساسية لهذا العمل الأخير أن مضمونه السياسي ــــ بخلاف معظم الأفلام التي حقّقها شاهين خلال العشرية الأخيرة ــــ اندرج ضمن قالب فني لم يعتمد فقط على قدرات شاهين الأسلوبية ولغته البصرية المميزة، بل استند أيضاً إلى سيناريو متماسك لم يكتف بمحاكاة الواقع الاجتماعي أو مساءلته، بل نحت منه شخصية محورية مميزة، هي شخصية أمين الشرطة الفاسد (حاتم) التي حملت من العمق الإنساني والدلالة الرمزية ما يخوّلها أن تبقى ماثلة في أذهان محبي السينما الشاهينية... على غرار شخصيات «قناوي» في «باب الحديد»، أو «بهية» في «العصفور» أو «يحيى» في «الثلاثية الإسكندرانية»