الناقد العراقي الذي أرّخ «شارع الرشيد» أدبياً

كتاب «ما تخفيه القراءة» جزء من مشروعه النقدي الذي بدأه منذ عام 1971، بأدوات محلية وملتصقة بالواقع والمجتمع، ومنفتحة على آفاق التجديد والثقافة العالمية. النقد بالنسبة إليه ينبغي أن يكون ابناً للنص الإبداعي، لا جسماً مقحماً عليه. وهو يتّهم الكتّاب العراقيّين بأنّ نصوصهم لا تحمل مشروعاً فلسفيّاً

سعد هادي
لا يخفي الناقد العراقي ياسين النصير أنه تردد طويلاً قبل نشر مقالاته عن القصة والرواية في كتاب صدر أخيراً بعنوان «ما تخفيه القراءة» (المجلس العراقي للثقافة بالتعاون مع «الدار العربية للعلوم ـ ناشرون» ــ 2008). ذلك أنّ هذه المقالات تشكل قراءات ذات وجوه مختلفة في مراحل متعددة، مما يعني أن الوحدة المنهجية لها قد لا تكون دقيقة، ولكنه حين جمعها معاً لاحظ أنها ـ رغم أزمنة الكتابة المتباعدة ـ تشكل نسقاً متصلاً، مثلما تجمع أيضاً في سياق تاريخي أجيالاً من الكتاب وأشكالاً مختلفة من نصوصهم.
لقد أراد أن يبتعد قليلاً عن غرام النقد العربي الأزلي بمناهج النقد الحديث، فلا بأس لأي ناقد أن يستفيد مما توفره هذه المناهج من دون الوقوع تحت سطوتها.
بالنسبة إلى النصير، ينبغي أن يكون النقد إبناً للنص الإبداعي وليس جسماً مقحماً عليه، وهو يرى أنه ينتمي عاطفياً الى النصوص التي يتناولها ويسعى من خلال ذلك الإنتماء الى إستنباط رؤيته النقدية، وتحول بعض أفكارها لاحقاً الى مصطلحات نقدية مثل: المكانية، الصيانية، التدميرية، المساحة المختفية، مع الإستفادة من مناهج النقد الحديثة دون الإعتماد على منطلقاتها النظرية التي تنطلق من واقع وثقافة ونصوص مختلفة.
ذلك يعني برأيه تجاوزاً وليس إنعزالاً. «علينا أن نكون ضمن حركة العالم الثقافية والفكرية، لا أن نكون تابعين». إنه يعيد بعضاً من قناعاته هذه الى إقامته منذ أكثر من عشر سنوات في هولندا، الى معايشته للثقافة، وأنماط الحياة وأشكال العمارة هناك. «لا أطلق على ذلك وصف تأثرٍ بل مجاورة».
ويعتبر أنّ كتبنا وأفكارنا وآراءنا لو ترجمت فستجد صدىً هناك، «الثقافة الغربية قادرة على الإحتواء والفهم لأنها ثقافة واسعة».
يرى النصير أنّ تجربته الراهنة في معالجة النصوص تعتمد مادة منهجية من مكونات الثقافة العربية الإسلامية بكل صنوفها، مشيراً الى أنّه يعدُّ اللغة العربية بنية متكاملة، بجانبين متلازمين روحي ومادي. والحروفية في التشكيل هي نموذج لهذا التزاوج. عناصر منهجه النقدي تستفيد من تلك البنية لكن برؤية ماركسية، فهو وإن لم يعد شيوعياً، فما زال يؤمن كماركسي بالمادية الجدلية، ولا يغفل إرثها بكل ما فيه من قوة معرفية تسهم في قراءة النصوص قراءة تستوفي شروط الحداثة. وهو لا يعتبر ذلك نوعاً من عودة الوعي بل إكتشاف للذات النقدية فكرياً وإجتماعياً.
من هنا مثلاً فكرته عن الصيانية والتدميرية التي توفق بين الفكر الجدلي في معالجة النصوص وبين الفلسفة العربية الإسلامية. «اللغة العربية هي صيانية أما الإبداع فيها فهو تدمير، الإبداع لا يلتزم باللغة بل بالكلام والكلام أكثر إبداعاً. الصيانية والتدميرية مبدأ فكري يقوم على الحركة بين إثنين: اللغة والكلام».
يعتبر النصير أيضاً أن طريقة الناقد ينبغي أن تنبع من حاجة النص إليها، كل نص بتقديره يحتوي على رؤية نقدية خاصة وعلى الناقد أن يكشــف هذه الرؤية. «عليه أن يغيِّر مفرداته النقدية تبعاً للنص الذي يقرأه». أين هي المنهجية إذاً؟ «إنها تكمن في الرؤية. أما الأدوات النقدية فهي متحركة. يمكن أيضاً الإنطلاق من بنى أخرى لمعالجة النصوص كالبنيـة الجغرافية التي هي كما قال كلود ليفي شتراوس آخر قلاع المعرفة. الجغرافية هنا ليست طبيعة ولا بيئة ولا خارطة، بل إنسان ومجتمع وأنماط حياة وإطار الثقافة وأهم مكوناتها. في السرد يمكن الحديث كذلك عن بنية المكان المؤثر. المكان يضم ثلاث شحنات (الفضاء، المنطقة، الموقع)». وما زالت فكرة المكان بالنسبة إلى النصير فكرة أساسية في مواجهة العناصر الأخرى. ويشير الى أن رؤيته النقدية تطورت منطقياً خلال 40 عاماً الى ما هي عليه الآن. بدأ من السياسة والفكر السياسي، وحرَّضه إنتماؤه الى الحزب الشيوعي في مرحلة مبكرة من حياته الى رؤية الواقع ومشكلاته بعين نقدية سياسية تطورت لاحقاً لتصبح رؤية نقدية تتعامل مع تقنيات النصوص وأشكالها. ظلت مفرداته كما يقول محلية وملتصقة بالواقع والمجتمع ومنفتحة على آفاق التجديد والإستفادة من الثقافة العالمية.
لم يغلق منهجه على مفردات ومفاهيم محددة، ظل يضيف ويطور الى أدواته بإستمرار. الإستهلال مثلاً كفكرة نقدية لم تتلاشَ بل تطورت وأضيف إليها لاحقاً. أما رؤيته إلى المكان في كتابه «الرواية والمكان» (1980) فيجدها الآن بسيطة لكنها كانت بداية ضرورية للنقد المكاني. يعترف أيضاً أنه توصل الى ما توصل إليه بإجتهاده الشخصي.
«المرحلة الراهنة تتأسس على إكتشاف الذات النقدية أكثر من إتباع منهج نقدي أو تحديد سماته وآلياته بصرامة».
في المقابل يتهم النصير في أحد فصول كتابه، القاص العراقي بأنه بلا فلسفة تسند نصه. «إنها محنة الثقافة لا المثقف، كل كاتب ينبغي أن يكون ذا مشروع، يتحول الى مواضيع وأفكار. جزء من هذا المشروع يقوم على فلسفة يصنعها الكاتب أو يكتشفها، عندما تقرأ دوستويفسكي مثلاً تجد مشروعاً فلسفياً كبيراً لديه يستند الى «رؤية النبوة» بينما لكل رواية من رواياته موضوعها الخاص بها. كتابنا لا يمتلكون مشاريع فكرية. لذلك تأتي نصوصهم متناقضة، كل نص يتجه بإتجاه مغاير للنص السابق، إنهم يدبجون ملخصات ولا يفكرون بمشاريع».
لنقلب المعادلة إذاً، ماذا لو كتبت أنت رواية؟ يرد: «طريقتي في النقد الثقافي، تتطلب أن يكون في الأسلوب شيء من الحكاية وشيء من السرد. لا أقول أنني أكتب رواية أو سأقوم قريباً بكتابتها، كتابي «شارع الرشيد» (2003) هو نص وليس تقريراً وثائقياً عن أشهر شوارع بغداد، هو كتاب نقدي ثقافي يستند الى بنية روائية داخلية.


شيء من عبق الستينيات

بدأ ياسين النصير (البصرة ـــ 1940) مشروعه النقدي بكتاب مشترك («قصص عراقية» ــــ 1971) مع الناقد فاضل ثامر الذي كان يماثله في السن والانتماء الحزبي والفكري.
وكلاهما انتميا أيضاً إلى الحركة الثقافية في الستينيات، وظلّا متعلّقين بإنجازاتها وفصولها المحتدمة.
كانا ضمن جيل من النقاد المحترفين الذين لم يأتوا من الأدب ولم يعودوا إليه.
جيل ضم عبد الجبار عباس وعبد الإله أحمد وطراد الكبيسي وعلي عباس علوان وسواهم.
عمل النصير في الصحافة والتعليم وشارك في كتابة وتمثيل بعض المسرحيات، لكنه لم يهجر النقد مطلقاً. ظلت صفة الناقد تلاحقه مثلما ظلّ يعتبرها علامة مميزة له.
وإذا كان قد اهتم بالنقد الأدبي في بداياته، فإنه تحوّل لاحقاً إلى النقد الفني في المسرح والتشكيل والعمارة، وظل دوماً غزير الإنتاج على رغم ظروف السجن والترحال والمنفى وكذلك المرض. إذ تعرّض في منتصف التسعينيات إلى أزمة قلبية كادت تودي بحياته.
يقيم النصير منذ عام 1996 في هولندا.
وقد أصدر عشرات الكتب، أبرزها: «القاص والواقع» (1975)، «الرواية والمكان» (1980)، «الاستهلال ـــ فن البدايات في النص الأدبي» (1993)، «المساحة المختفية» (1995)، «جماليات المكان في شعر السياب» (1996)، «عوني كرومي والمسرح الشعبي» (2002).
في كتابه الأخير «ما تخفيه القراءة»، راجع النصير الخصائص الجمالية والفكرية في عدد من الروايات العراقية، بينها: «ظلال على النافذة» لغائب طعمة فرمان، «آخر الملائكة» لفاضل العزاوي، «سواقي القلوب» لأنعام كجه
جي.