الجهات الخمس تلتقي في جبل اللويبدةعمّان ــ أحمد الزعتري
يرمز مفهوم «5 نقاط التقاء» إلى التعايش بين الثقافات، مع احتفاظ كل منها بهويتها. وFive Points هي أيضاً منطقة تقع وسط البلد، تنتهي عندها طرق مدينة مانهاتن في نيويورك. وبعدما كانت هذه المنطقة بؤرة جريمة، تجددّ مفهومها لتصبح مجتمعاً متعدد الأعراق، يُنتِجُ نسيجاً من الهويات الإيرلندية والإيطالية والأفريقية والصينية والإنكليزية.
والآن، يخضع هذا المفهوم إلى إعادة إنتاج في «دار الأندى» في عمّان الذي تطل شرفته على وسط البلد، من خلال التقاء 5 فنانات من أنحاء العالم في معرض مشترك تحت اسم «شرق... غرب». من خلال 64 لوحة، تلتقي تجارب تشكيلية مختلفة ومتباينة للفنانات برانكا ريديكي من كرواتيا، آمنة النصيري من اليمن، هيلدا حياري من الأردن، نادين بوورن من فرنسا وسيلفيا بولوتو من البرازيل.
لا يمكن وصف تجربة برانكا ريديكي تحديداً بالتجريدية. إذ إنّ الفنانة تستعيد دور الحرف اللاتيني كجزء أساسي وتأويلي من اللوحة. بذلك، تضع ريديكي نفسها في مواجهة الجدار الذي احتضن أولى المحاولات الفنية في الكهوف... فإذا بالمشاهد يجد نفسه واقفاً أمام جدارية منطوقة تحكمها الأحرف على أسطح لونية طبيعية. الفنانة المتجوّلة التي طافت باكستان والهند ومصر وسيريلانكا، تسجّل يومياتها في اللوحات، كأنّها تنقل بذلك إلى العلن دفاترها الحميمة الساذجة التي نربّيها عادة في الخفاء، من خلال 20 لوحة تتفاوت أحجامها ويتسيّدها اللون البرتقالي بحرارة. في لوحة من دون عنوان (زيت وحبر ومواد مختلفة على قماش)، تروي ريديكي مذكّرات يوم سفر في الهند.. تتضّح الكلمات أحياناً لنقرأ: «رحلتي في القطار إلى الهند تسير، إما إلى الجنوب أو بعيداً إلى دارامشالا..». هذه اللوحة مختلفة عن باقي اللوحات، إذ تحضر الألوان الغامقة من خلال اللونين الأخضر والأزرق، ويخترق اللوحة خطان مستقيمان يلتقيان في زاوية كأنها تلوح من عل: أنا هنا.. هذا موقعيأما اليمنية آمنة النصيري، فتحفر في أصول الثقافة اليمنية لتلتقط الأشكال والأيقونات الخرافية، لتحوّلها، على اللوحات، ببصيرة غرافيكية إلى مخلوقات مسحورة تعمل على تشويه السطح التجريدي للوحة. ثيمة اللوحات الـ7 المعروضة تكاد تكون واحدة، تحكمها خلفيات بألوان أساسية (لا مستقبليّة)، تعلوها طلاسم ورموز وحتى أحرف وطيور في بعض اللوحات. في لوحة من دون عنوان أيضاً، تنسخ النصيري أشكال حيوانات ورموز وأيقونات على خلفية سوداء يشوبها الأبيض بقلق من طرفي اللوحة. تستدعي النصيري من خلاله أحرفاً عربية وإشارات من الذاكرة الوثنية والبدائية، لتصبح ثيمة أساسية في تجربتها التي بدأتها منذ أكثر من 13 عاماً.
ونصل إلى جناح الأردنيّة هيلدا حياري التي تشتغل على الـ«فيديو آرت» وفن التركيب Installation، إضافة إلى الرسم، تطالع المشاهد تجربةٌ مختلفة تستفيد من الصورة المتحركة. إذ نجحت حياري في إيجاد أسلوبها الخاص الذي يصبغ لوحاتها بالألفة رغم تجريديتها العالية. تشتغل حياري على منطقة أخرى؛ بالظواهر الكونية وتجلياتها عبر أسلوب حيوي يستفيد من اهتمام الفنانة بالميديا. وفي لوحاتها غير المعنونة أيضاً، تحتفي هيلدا بالسدم والمجرّات والنجوم الكونية، بألوان داكنة وساطعة تضفي تبايناً لونياً على اللوحة. أما فعالية أسلوب الفنانة فتظهر في مراكمة الدوائر والنقاط في زاوية، ومن ثم دفعها إلى الانفجار بانفعال، لتحقّق مشهداً بصرياً متحرّكاً.
تختفي تلك اليوميّات والأيقونات والأجرام السماوية عند نادين بوورن، فالعبثية التي تستغلّ مساحة 14 لوحة معروضة تحقق هدفاً آخر: العفوية. على رغم أن الخطوط والأحرف والأيقونات حاضرة في أعمالها، إلا أن تقصّد الفوضى اللونية يقذف بالمشاهد إلى منطقة أخرى تبتعد عن التكلف. التقنية المستخدمة هنا هي ببساطة تقنية طفوليّة: على خلفيات لونية هادئة وحيادية، توزع بوورن ألواناً متباينة وأشكالاً غير منتظمة بالرسم، والخط، والخدش. وبحسب منظّري المدرسة التجريدية، فإنّ هدف هذا النوع من التشكيل هو التنافس مع الأشكال الطبيعية. ومن هنا حارب بعض الفنانين والنقاد التجريديين المدرسة الأكاديمية لمصلحة الفطرية.
وفي الاتجاه نفسه، تقدم البرازيلية سيلفيا بولوتو 11 لوحة مختلفة الأحجام، تطغى عليها الألوان الحارة والأشكال غير المنتظمة، وتؤكد نضج هذا النوع من الفن. وعلى الرغم من أن بولوتو وزميلتها الفرنسيّة بوورن، تنتميان إلى المدرسة نفسها، إلا أن الفرق بين تقنيتيهما هو وضوح الخط الأنثوي لدى الأولى. فالألوان الأساسية ساطعة وواضحة (أزرق، أصفر، أحمر..)، والخطوط مرنة. إذ تؤسس بولوتو كل زاوية من اللوحة بالخلفية الزرقاء الصافية والمضاءة بأشكال مختلفة ولطخات لونية قوية التعبير تميّز تقنيتها.
هذه التجربة التشكيلية المشتركة تستحقّ التوجه إلى أقدم جبال عمّان، أي اللويبدة، والنزول إلى آخر نقطة قبل وسط البلد، والدخول إلى غاليري «دار الأندى» لمشاهدة المعرض... لعلّنا نسرق وقتاً من زحام المدينة لنطلّ عليها من شرفة تستعيد تجربة نقاط الالتقاء الخمس.


معرض «شرق... غرب»: حتى 15 آب (أغسطس) المقبل ــــ غاليري «دار الأندى»، عمان: +96264629599