المفكّر المصري الذي فكّك المسألة الصهيونيّة
بعد صراع طويل مع المرض الخبيث، شُيّع أمس المفكّر المصري في مسقط رأسه دمنهور مضى المسيري تاركاً للمكتبة العربيّة مؤلفات مرجعيّة، أبرزها موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية» التي عُدّت من أهمّ إصدارات النصف الثاني للقرن العشرين

محمد خير
في كل مكان وجد فيه، كان يصعب رؤية الدكتور عبد الوهاب المسيري. إذ يحيط به تلاميذه كالفراشات حول النور. وهم ـــــ للعجب ـــــ لا يتبعونه من مكان إلى آخر. إذ إنّ له في كل مكان تلاميذ تنوعت مشاربهم وانتماءاتهم واهتماماتهم. فالمفكر والعالم المصري الذي رحل فجر أوّل من أمس في القاهرة، بعد معاناة مع المرض، استطاع أن يجمع المجد من طرفيه: طرف العلم وطرف السياسة. في العلم، جمع بين البحث والتدريس. وفي السياسة واجه الخارج والداخل معاً. كرّس عمره لفهم ظاهرة الصهيونية، ثم أنهى هذا العمر الجليل بتزعّم حركة «كفاية» اليسارية. إذ لم يكن منطقياً، لواحد من أهل المنطق، أن يكتفي بمعاداة الاستيطان، متخذاً من البحث العلمي ذريعة صمت إزاء الاستبداد العربي. في السبعين، شارك في التظاهرات متقدماً تلامذته، فهراوات شرطة الشغب لم تكن، على أي حال، أشدّ إيلاماً من أوجاع السرطان.
لا شك في أنّ موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية ـــــ نموذج تفسيري جديد»، هي أبرز ما سيبقى لنا من أعمال المسيري (1938 ـــــ 2008). الموسوعة الضخمة التي صدرت قبل تسعة أعوام، استغرقت من المسيري ربع قرن من العمل والجهد والبحث الدؤوب. لكنّها لم تكن بداية علاقة المفكر الكبير بالمسألة الصهيونية. هذه الأخيرة بدأت عام 1972 مع كتابه «نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني» الذي أصدره بعد ثلاث سنوات من حصوله على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة «ريتجرز» في ولاية نيوجيرسي عام 1969، سبقتها رسالة ماجستير عام 1964 في الموضوع نفسه من جامعة «كولومبيا».
بعد كتابه الأول في المسألة الصهيونية، أصدر المسيري موسوعاته الأولى «موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية» عام 1975. وخلال أعوام السبعينيات، استمر في إصدار مؤلفات معنية بالصهيونية باللغتين العربية والإنكليزية. وعندما قرر تحديث موسوعته عن المصطلحات والمفاهيم الصهيونية، اكتشف أنّ «رؤيته في هذه الموسوعة كانت تفكيكية، وأن المطلوب رؤية تأسيسية تطرح بديلاً». ولم يكن موقف المسيري رافضاً لموسوعته السابقة بقدر ما كان رافضاً التفكيكية كمصطلح وموقف. إذ رأى في منهجها «التقويضي» دافعاً رفَض من خلاله فكر «ما بعد الحداثة»، ورأى فيه نتاجاً لفشل المشروع التحديثي الغربي. وقد رأى أنّ فلسفة «ما بعد الحداثة» في رفضها للمطلقات والمرجعيات ومفهوم المركز، تعود لتقع في فخ المطلق من جديد. إذ إنّ مطلقها هو نسبية المعايير، ومرجعيتها إنكار أي مرجعية، الأمر الذي يتحول معه العقل المادي إلى «عقل سطحي لا يمكن أن يطرح الأسئلة الكلية»، ما يمثل غاية الرأسمالية وهدفها في صيغتها النهائية: «الإمبريالية».
بالطبع، فإن النقد الذي مارسه عبد الوهاب المسيري للتفكيكية كمفهوم، وإزاء مؤسسها البارز جاك دريدا، هو نقد ورؤية تبقى في إطار ذلك الخلاف الفلسفي. ورأى بعض منتقدي المفكّر الراحل، أنّ موقفه نابع من أفكاره التي ارتبطت بالماركسية لوقت طويل. ما يهمنا هنا أنّ رفض المسيري للتفكيكية، التي وضعها مؤسسها على أساس أنّها «ليست منهجية» توائم مع اقتناع المسيري بأنه بحاجة إلى منهجية في تحديثه موسوعته عن المفاهيم أو المصطلحات الصهيوينة. ولهذا فإنه، حسبما قال، كان ليستغرق عامين أو ثلاثة في تحديث موسوعته لو أعاد استخدام التفكيكية.
هكذا وجد أنه في حاجة إلى «تفسير»، إلى طريقة يستطيع من خلالها، هو ومن يتبعونه من باحثين، أن ينظروا إلى المسألة الصهيونية. لقد كان المسيري في حاجة إلى تحقيق رؤيته «التأسيسية» لطريقة فهم المشروع الصهيوني، بدءاً من مناقشة أخطاء الخطاب التحليلي العربي للمسألة الصهيونية ومعالجتها. هكذا استبعد الخطابين «العملي/ التعبوي» و«الأخلاقي»، مركزاً على الخطاب العربي الذي تبنى المقولات الغربية التاريخية عن اليهود. وهي مقولات مستقاة من مصادر إنجيلية تتحدث عن «التاريخ اليهودي» و«الشعب اليهودي»، وتنتزع الجماعات اليهودية من سياقاتها التاريخية والاجتماعية، وتراها «كيانًا مستقلاً يتحرك داخل تاريخه المستقل». كما يسقط الخطاب التحليلي العربي في أخطاء أخرى من أهمها الرؤية «النصّية» التي تفترض أنّ «ما ورد في الكتب المقدّسة لليهود يكفي أن يكون نموذجاً تفسيرياً لسلوك اليهود».
وهذا المشروع الهائل الذي أنجزه بجهوده الذاتية، حظي بحفاوة وتقدير ليس لهما مثيل من كبار الكتّاب والمفكرين والمؤسسات العربية، وصلت حدّ وصف الموسوعة بـ«أهم عمل ثقافي عربي في النصف الثاني للقرن العشرين». ورأى مفكرون بارزون أنّها «سدت نقصاً هائلاً في الذاكرة والمكتبة العربية».
أدرك المسيري بالطبع أن سيحتاج إلى وقت كبير من أجل «تأسيس» موسوعته، وتحقيق نظرية عربية في المسألة اليهودية. وقد طال هذا الوقت حتى وصل إلى ربع قرن. صدرت موسوعته عام 1999 في 8 مجلدات عن «دار الشروق» في القاهرة. وحازت جائزة أفضل كتاب في «معرض القاهرة» التالي. لكنّها تبقى بالطبع أكبر من أي جائزة، ودرة التاج في مؤلفات المسيري التي أضاءت درباً معرفياً وفلسفياً ذا أبعاد اجتماعية وسياسية وفلسفية، من أهمها: «الفلسفة المادية وفكر الإنسان» (2002 ــــــ دار الفكر المعاصر، دمشق)، «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» (2002 ــــــ دار الشروق) «العالم من منظور غربي» ( 2001 ــــــ دار الهلال، القاهرة)، «هجرة اليهود السوفيات» (1990 ــــــ كتاب الهلال، القاهرة)...