القاهرة ـ محمد شعير شُيِّع أمس عبد الوهاب المسيري الذى غيّبه الموت عن سبعين عاماً، بعد رحلة طويلة من العلاج من مرض السرطان. وكان المفكر المصري البارز قد أُدخل الجمعة الماضي إلى أحد مستشفيات القاهرة بعدما تدهورت حالته الصحية. وتعدّ حياة المسيرى سجلاً لتحولات جيل بأكلمه. وجد فى الغرب «فردوساً» فكريّاً، ولكن مع الاحتكاك المباشر به، ومع تعقّد القضية الفلسطينية، انتقل من النقيض إلى النقيض. فقد درس المسيري الأدب الإنكليزى في جامعة الإسكندرية، وترجم عدداً من أبرز الأعمال الكلاسيكية الإنكليزية مثل قصيدة كولريدج الشهيرة «الملّاح التائه». لكنّه لم يستمر في الترجمة والنقد الأدبي، بل تحوّل إلى دراسة «المسألة الصهيونية» التي أصبح من أكبر المتخصّصين فيها، كما أدار ظهره للحضارة الغربية بحثاً عن لحن وجوده في الحضارة العربية الإسلامية!
كانت البداية عندما وجد لوحة رخامية في أحد أسواق القاهرة القديمة اشتراها على الفور، وعاد إلى منزله مسرعاً ليعلّقها في مدخل المنزل. كانت اللافتة القديمة التي كتب عليها بالخط الكوفي «ديوان الأميرية» إعلاناً من صاحبها باستقراره الفكري، بعد سنوات من البحث والتنقيب في قضية «الهوية».
وحين عاد الرجل المولود في مدينة دمنهور ، منبهراً بالحضارة الأميركية الجديدة حيث اختار إحدى جامعاتها للدراسة العليا، قرر أن يخرج من «سوبر ماركت الغرب الذي لم يستطع الكثيرون من المثقفين العرب الخروج منه» كما يقول في سيرته الذاتية الممتعة «رحلتي الفكرية ـــــ في البذور والجذور والثمر».
عاد المسيري من رحلته الأميركية، وكانت مصر تخوض حرب الاستنزاف، وكان الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل يؤسس في «الأهرام» مركز الدراسات السياسية، وكان الرئيس عبد الناصر يقرأ كل ما يصدره المركز من تقارير. استعان هيكل بالمسيري ليرأس وحدة الفكر الصهيوني التي تترجم وتقدم دراسات عمّا يجري في المجتمع الإسرائيلي.
ومن هنا، كانت بداية التفكير في موسوعته الشاملة «اليهود واليهودية والصهيونية» التي تناولت كل الجوانب المتعلقة بتاريخ اليهودية، وفرقها وكتبها الدينية، وطقوسها وشعائرها، وأزمتها في العصر الحديث، وعلاقتها بالصهيونية وبمعاداة السامية. وتغطي الموسوعة الحركة الصهيونية ونشاطاتها ومدارسها وأعلامها، وبعض الجوانب الأساسية للدولة الصهيونية.
وقد ظل الراحل يعمل على إنجاز هذه الموسوعة لأكثر من عشرين عاماً وأنفق ما يقرب من مليون ونصف مليون جنيه (حوالى 300 ألف دولار)، حتى إنّه اضطر إلى أن يبيع شقته الساحلية لاستكمالها ولم يكتفِ بها أيضاً، بل أصدر بعدها كتباً عدة تتناول جوانب القضية الفلسطينية، وبنية الفكر الصهيوني حتى بلغ عدد ما أصدره من كتب عن إسرائيل وحدها ما يقارب عشرين كتاباً.
لم تكن القضية الفلسطينية هي المجال الوحيد الذي شُغل به الراحل، فقد انخرط في العمل السياسي المباشر في سنواته الأخيرة حتى اختير منسّقاً عاماً لحركة «كفاية» المصرية، الحركة المعارضة لحكم الرئيس حسني مبارك والساعية إلى إسقاطه من الحكم بالطرق السلمية وتعارض توريث الحكم بعده. وقد وجّه المسيري انتقادات حادة إلى النظام المصري، حتى إن الحكومة المصرية رفضت علاجه على نفقتها الخاصة العام الماضي رغم حاجته إلى جراحة عاجلة. وهو ما دفع أحد الأمراء العرب إلى التبرع بقيمة علاجه كاملة.
وقد حصل الراحل قبل رحيله على جائزة «القدس» التي يمنحها «اتحاد الكتاب العرب»، وكان مقرراً أن يتسلمها في حفلة خاصّة في دمشق في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.