جولة عبر التصوّرات المشوّهة لمنطقتنا، كما سادت في الغرب، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، يقودنا إليها ناجي عويجان في كتابه «تطوّر صورة الشرق في الأدب الإنجليزي». كل ما تريدون معرفته عن ذلك العالم الغريب، من دون أن تتجرأوا حتّى على تخيّله...
أمل الأندري

«إن كان هذا هو الإسلام، أفَلَسنا جميعاً نعيش في الإسلام؟» بعدما استشهد بجملة غوته، ختم توماس كارلايل (1795 ــــ 1881) محاضرته قائلاً: «الإسلام هو فعلياً روح المسيحيّة، لأنّه يعني نكران الذات». هذه المحاضرة التي ألقاها الكاتب الإسكتلندي بعنوان «البطل كنبي، ومحمد والإسلام» في 8 أيار (مايو) 1840 في ساحة بورتمان في لندن، جاءت لتعيد الاعتبار إلى صورة الإسلام بعد قرون كاملة من التشويه الممنهج للشرق في العالم الغربي. هذه الواقعة وغيرها يذكرها ناجي عويجان في معرض تناوله «تطوّر صورة الشرق في الأدب الإنكليزي»، وهو عنوان كتابه الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (“المنظمة العربية للترجمة” ــــ تعريب تالا صبّاغ)، وكان صدر بالإنكليزية عام 1995.
يقسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول، تغطّي صورة الشرق في الأدب الإنكليزي، منذ ما قبل القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر. علماً بأنّ عويجان تناول بالتفصيل والتحليل أعمال صموئيل جونسون، وليم بيكفورد، لورد بايرون وتوماس كارلايل، لما كان لهم من تأثير في تصحيح صورة الشرق في الأدب الإنكليزي.
صحيح أنّ الأعمال التي تناولت الشرق بدأت تنتشر في القرن الثامن عشر، إلا أنّ الاهتمام الإنكليزي بتلك البقعة يرقى إلى الحقبة الأنغلوساكسونية، وخصوصاً بعد اعتناق إنكلترة المسيحية في القرن السادس. بالطبع، خضعت صورة الشرق لمتغيرات كثيرة بحكم عوامل تاريخية وجغرافية وسياسية عدة، أسهب المؤلف في تناولها. لكنّ أبرز العوامل التي أسهمت في تشويه تلك الصورة كانت الحملة التي شنّتها الكنيسة على الشرق، باعتباره البقعة التي انتشر فيها الإسلام، وبالتالي خطراً عليها.
هكذا، ظهر الشرق أوّل ما ظهر موطناً للوحوش والخرافات والأساطير والألغاز، واقتصر توظيفه في الأدب على العوامل التزيينية والزخرفة، من دون اهتمام حقيقي بالنسيج الثقافي والحضاري لتلك البقعة من العالم. ألم يرَ بيديه (Bede)، الذي كان المرجعية الأولى في تاريخ إنكلترا للقرون الوسطى، العرب «كفّاراً ووحوشاً». أما الرحّالة فكانوا يعودون بروايات عن الشرق، مزجوا فيها الواقع بخيال جامح مليء بالتوابل والبهارات.
يرى المؤلف أنّ هذه العوامل أسهمت في نشوء تيّار أدبي في إنكلترا، نقل صوراً مشوّهة عن الشرق حتى القرن الثامن عشر. ونذكر هنا «رحلات السير جون مندفيل» في القرن الرابع عشر، إذ يروي أنّه التقى «أناساً نمت رؤوسهم تحت أكتافهم»! أما رواية شوسر «قصة رجل القانون»، فصوّرت الشرق معقلاً للعدوانية، والمسلمين أنصاراً للشيطان. وعن تلك الفترة، يقول الكاتب البريطاني بايرون بورتر سميث: «لم ينبع تحيّز سوشر من كونه مسيحياً متعصباً، بل لأنّه كان يتبع تقليداً أدبياً». فبين عامي 1558 و1642، كُتبت 47 مسرحيّة في إنكلترا، كان ثلثها أعمالاً تراجيدية صوّرت الشرق «موطن الحروب والغزو وقتل الإخوة والشهوة والخيانة». وفي تلك الفترة، حظيت مسرحية كريستوفر مارلو «تيمورلنك العظيم» (1594) بشعبية كبيرة في إنكلترا، وهي تصوّر الشرق الذي يرغب جمهور الحقبة برؤيته، أي مسرح للخيانة والوحشية والغرابة. حتى شكسبير لم يُفلت من تلك الصورة. ألم يحوّل في مسرحيته «تاجر البندقية» (1594)، أمير المغرب إلى صورة تجسّد الجشع والطمع والمجون؟
يشير عويجان إلى أنّ النظرة إلى الشرق ظلّت على حالها، حتى بدأ الإنكليز ينقلون قصصهم عن الرحالة الفرنسيين، وخصوصاً جان باتيست تافيرنييه، وجان دو تافونو، والسير جون شاردان. وبين 1704 و1717 جاءت النسخة الإنكليزية من «ألف ليلة وليلة»، بعدما نقلها جان أنطوان غالان إلى الفرنسية.. ما مهّد لحركة استشراق حقيقي في إنكلترا، عزّزه تحوّل الكتّاب الإنكليز عن المواضيع الدينية، وبالتالي خفّت حملاتهم ضدّ الإسلام.
وقد برز في تلك الحقبة صموئيل جونسون الذي قدّم في روايته «راسلاس» شرقاً واقعياً يعيش فيه أناس من لحم ودم. لكنّ العمل اللافت بحقّ كان رواية وليم بيكفورد «تاريخ الخليفة فاتك» (1786) التي صارت مرجعاً في ما يخصّ تقاليد الشرق وأزيائه. تدور أحداث الرواية في مدينة سامراء، حيث صوّر الكاتب الحريم لأوّل مرة، وقدّم الشرق من خلال الأزياء والبضائع والملابس الرائجة. زِد على ذلك أنّ بعض شخصيات الرواية كانت تاريخية واقعية، ففاتك مثلاً ليس إلا الخليفة العباسي المعتصم (833 ـــــ 842).
وفي أوائل الحقبة الرومنسية، باتت تركيا وفلسطين ومصر قبلة الرحالة الغربيين. هكذا، استقرّت الليدي هيستر ستانهوب في لبنان عام 1810. وقد زارها الشاعر الفرنسي لامارتين حيث كتب كتاباً بعنوان «رحلة إلى الشرق» (1835)، تُرجم إلى الإنكليزية بعنوان «الحج إلى الأرض المقدسة». وفي كتابه «ذكربات وانطباعات وتأملات ومناظر طبيعية خلال رحلة إلى الشرق» (1835)، يشيد لامارتين بشخصية المسلم، مضيفاً أنّ مبادئ القرآن وتعاليمه تُشبه في الجوهر مبادئ الإنجيل...
إلا أنّه ما من عمل ضاهى أعمال لورد بايرون عن الشرق. يحكي ناجي عويجان أنّ اهتمام بايرون بالشرق يعود إلى الطفولة. وفي 1809، جال الشرق مدة سنتين وأصدر أربع روايات عنه هي: «جاور»، «عروس أبيدوس»، «القرصان»، و«حصار كورنثيا»، مبرهناً فيها عن احتكاك حقيقي بالمجتمعات الشرقية وعاداتها وتقاليدها، مستوحياً مادته الأدبيّة من قصائد شعراء فرس وحكايات «ألف ليلة وليلة» والأساطير والحكايات الشعبية. هكذا يخلص ناجي عويجان إلى أنّ بايرون وأمثاله من كتّاب تلك الحقبة فتحوا الباب أمام القارئ الغربي ليتعرّف فعلاً إلى حضارة مختلفة عنه... اختلاف الشرق عن الغرب!