نجوان درويشيبدو مُشاهد التلفزيونات العربية أحياناً، كمَن يشاهد واقع المجتمعات العربية من خلال نظارات الأطفال المُلَوّنة. وهي النظارات التي تمكّن الطفل من رؤية العالم وردياً أو أخضر أو بنفسجياً، وقد يراه سريالياً أيضاً. على سبيل المثال، بثت فضائية «دبي» أخيراً، فيديو كليب بطلته ناقة حسناء و«شاعر نبطي» يتغزّل بمفاتن وسجايا تلك الناقة الدعجاء. وقد تبارت الكاميرا (وطاقم كبير من العاملين) مع «الشاعر» المفتون في إبراز مفاتن الناقة ويدها البيضاء على الحضارة. ووصل به الأمر ـ في أحد أبيات مطولته «الشعرية»ـ إلى قول ما معناه: لدينا في الجنة الحور العين وأنت موجودة على الأرض.... ولو شاهدك الفراعنة لما تورطوا ببناء الأهرام. ثم أسهب في أبيات تذكر «انتصارات» و«أمجاد» و«مفاخر» متعلقة جميعها بالناقة!
لا يعرف المرء حقيقة كيف يتلقى هذا «الجهد» في تمجيد الناقة من تلفزيون «دبي». دُبي التي تحاول تقديم نفسها كمعجزة تنموية وقِبلة ما بعد حداثية... فإلى جانب سريالية هذا «الكليب»، ثمّة غياب كامل للحس التاريخي. كأن ألفاً وخمسمئة سنة من دورة التاريخ لم تدر، وكأنّ المعلقات لم تكتب ولم يدخل الإنسان العربي «الجاهلية» بعد. في هذا الفضاء اللاتاريخي، تبدو ناقة دبي الحقيقة الوحيدة أمام سراب التكنولوجيا و«سواليف» المعجزة الاقتصادية والعالم الجديد الذي يبدأ من هناك.
وإذ أخذنا مثالاً آخر على «صورة الحيوان» في الفضائيات العربية، فلا بدَّ لنا من أن نتوقف أمام برنامج وثائقي عن «حقوق الحيوان في سوريا»، بثّته أخيراً الفضائية السورية. البرنامج لا يتردد في إظهار ما تتمتع به الحيوانات في سوريا من حقوق، وأن هذا الأمر ليس جديداً، بل حاضرٌ في تاريخ سوريا القديم والمعاصر. فالمعري الشاعر والفيلسوف مثلاً هو «رائد حقوق الحيوان» كما يقول صوت مقدّم البرنامج الرخيم، على خلفية صور لحمائم وغزلان وادعة وواثقة من حقوقها. وهو يستشهد بأبيات من شعر المعري تؤكد ريادته. ويذكر المعلّق معلومات تاريخية أخرى تؤكد على عراقة حقوق الحيوان في سوريا، منها أنّ أهل دمشق كانوا يخصّصون محلّة للدواب التي أنهت الخدمة لتقضي بقية أيامها وتموت بكرامة. وأن أميراً من الأسرة القيمرية، كان قد أنشأ مشفى لإيواء القطاط المريضة والعاجزة والمحتاجة، وأن القطاط كانت تعيش هناك بالمئات، وأن أهل دمشق سمّوا الرجل القائم على خدمتها وعلاجها بـ«أبو القطاط»!
لا شكّ في أنّ معلومات كهذه، ستحرج كل الحركات المُحدثة المناصرة للحيوان، وغير المعترفة بفضل سوريا التاريخي والمعاصر في هذا المضمار. وبالطبع، لا يشير البرنامج إلى قتل «الكلاب الضالة» بالسم في بلديات ريف دمشق، كما يشير تقرير نشرته «سيريا نيوز» بتاريخ 12 آب (أغسطس) 2007. وفيه، يعترف رئيس بلدية قدسيا بأن «المحافظة وضعت طعماً للكلاب في الساعة السابعة مساء، ما أدى إلى موت 200 قطة والقليل من الكلاب».
لا يعرف المرء إن كان هذا البرنامج جزءاً من استراتيجية استباقية، لمواجهة ابتزاز أميركي محتمل بشأن ملف حقوق الحيوان في سوريا؟! أو أنّ هذا الإفراط في صون حقوق الحيوان في سوريا، هو ما يطغى أحياناً على حصة حقوق الإنسان؟ كما لا نملك تحديداً دقيقاً للعلاقة البنيوية بين كل ذلك، وبين ناقة دبي التي ينتهي التاريخ عند سنامها.
ولا أحد في إمكانه أن «يفهم» عبقرية التلفزيونات العربية في الزمن الفضائي، وهي مصرّة على عرض الواقع لمشاهديها بنظارات الأطفال الملوّنة!