ياسين عدنانصعد ماكين وردد خطابه اليميني المحافظ الذي توّجه إلى الجمهوريين. جولياني، عمدة نيويورك لا يقل عنه تشدداً ضد الإرهاب ومن يتهمهم بالضلوع فيه، لكن تبريره للإجهاض لم يرُق للمحافظين على ما يبدو، لذا جاء إقصاؤه مبكراً. عضو الكونغرس رون باول كان مفاجأة المناظرة. فإدانته للحرب على العراق ولسياسة بوش الخارجية كانت شديدة. لم أستوعب في حينه كيف يمكن لرجل بمثل هذا الخطاب المُتجذر، أن يرشح نفسه للرئاسة باسم الفيل الجمهوري المحافظ. هذه مفارقات لا تحصل إلا في بلاد العم سام. لكن الأهم هو أن كل المرشحين عبروا عن قناعاتهم السياسية، قبل أن تنتهي المناظرة لتتواصل الحوارات التلفزيونية في مختلف أرجاء المركز مع هذا المرشح أو ذاك، ومن طرف مراسلي أكثر من قناة. وأنا أغادر المركز باتجاه الفندق، اعترضت سبيلي شابة أميركية وأعطتني دعوة للسهر في إحدى مراقص المدينة. الدعوة تحمل توقيع جاري في الفندق الجنرال ماكين. كان عليّ أن أنام باكراً، لأتمكن من السفر فجراً إلى أوكلاهوما سيتي. ومع ذلك، تسلمت الدعوة مبتسماً. في غرفة الفندق، كانت كل القنوات تعيد بث فقرات لهذا المرشح أو ذاك، وتشبعها تحليلاً. وقبل أن أستسلم للنوم، شرعت «فوكس» في إعادة المناظرة كاملةً، فتابعت اللقاء على الشاشة، لأستوعب بشكل أكبر مضامين الخطابات والتحاليل.
في الفجر، كنتُ على وشك استفسار موظف الاستقبال: ترى هل عاد الجنرال من مرقصه الانتخابي أم لا؟


انتخابات... متلفزة

فاجأني أحد الأصدقاء أخيراً وهو يردُّ عزوف المغاربة عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع في الاستحقاقات التشريعية الأخيرة إلى سبب لم يخطر في بال أغلب المحللين: إنه غياب الفرجة، وفشل التلفزيون المغربي في تحويل الحملة الانتخابية والمعارك المرافقة لها إلى فرجة تلفزيونية.
والحقيقة أن الطريقة التي يواكب بها التلفزيون الانتخابات في بلادنا، تفتقر بشكل ملحوظ إلى هذا العنصر. بل، من حيث لا يدري، أسهم التلفزيون بقوة في تنفير الناس من السياسة والسياسيين. يكفي فقط أن نتذكر تدخلات الأحزاب السياسية على القناتين الأولى والثانية، وقد جاءت في غالبيتها مكرورة مملّة، خالية من الإثارة وبلا ذكاء تقريباً. لذا حينما نظّم البرلمان الفرنسي قبل سنوات دروساً للبرلمانيين في مجال التواصل وإلقاء الخطب، فهو لم يكن يُرفِّه عن نفسه، بل كان يدافع عن صورته ويعمل على صون «الوضع الاعتباري» للمؤسسة التشريعية. فصورة المؤسسة هي طبعاً من صورة المنتسبين إليها.
هذا عن فرنسا، أما إذا استحضرنا النموذج الأميركي، فسنكتشف أن الاستحقاقات كلها تُحسم عبر الإعلام، وبالضبط على شاشة التلفزيون. فالجزء الأكبر من ميزانية الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة يخصص لتمويل الدعاية التلفزيونية. إضافة إلى المناظرات التي تُنقَل مباشرة على الهواء والتي تُعَدُّ منذ انطلاقها عام 1960 المجال الأكثر تأثيراً، بل الحاسم لكلّ من يطمح للرئاسة في بلاد العم سام. قد يرى بعضهم أن الإعلام هناك صار يلعب دوراً مبالغاً فيه. لكن الأهم هو أن جميع الأطراف وافقت على اللعبة وانخرطت فيها. أما المردودية فلا غبار عليها: إثارة وتشويق وانخراط حماسي للمواطنين في اللعبة الانتخابية، فضلاً عن بروز نخبة جديدة من السياسيين العصريين الأذكياء الذين يعرفون كيف يصنعون مستقبلهم السياسي أمام الشاشة ومن خلالها. والحقيقة أن سياسياً عصرياً قابلاً للانتخاب، electable)) بلغة الأميركيين، متمكناً من فنون المحاورة والسجال، وقادراً على الدفاع عن مواقفه أمام الكاميرات... لهو أفضل ألف مرة من سياسيين عابرين للأجيال لا يتعدى رأسمالهم السياسي والتنظيمي إدمان التناور والتآمر في الكواليس، كما هو شأن بعض محترفي السياسة في البلاد العربية.