«يا ليل طُلْ» في «حضرة» الطرب، في قصر بيت الدين
بعد يومين تفتتح «مهرجانات بيت الدين» بأمسية طربيّة تحييها المغربيّة كريمة الصقلّي التي تعود إلى بيروت، هذه المرّة، حاملة معها التراث الأسمهاني. تمهيداً للمناسبة خصّنا الأب إيلي كسرواني، رئيس قسم العلوم الموسيقيّة في «جامعة سيدة اللويزة» (لبنان)، بنصّ يضع تلك التجربة المهمّة في إطارها الفنّي والتاريخي

الأب إيلي كسرواني

سيد درويش ابن الإسكندريّة، صانع النهضة الموسيقيّة العربية، سليل جيل سلامة حجازي وصالح عبد الحي ومحمد القصبجي، وفيما بعد زكريا أحمد وبيرم التونسي ونجيب الريحاني وبديع خيري... أمَّ بلاد الشام، وهي تحت الحكم العثماني، لأول مرّة في 1909 مع فرقة سليم وأمين عطالله ليمتحن موقعه في دنيا الطرب. وغنّى على مسامع من عُرفوا بأهل الأصالة في الشام وحلب وبيروت. غير أنّ أذنهم العالية الثقافة والحس الموسيقي لم تمنح سيد درويش كل الرضى وإذا برحلته تبوءُ بالخيبة.
لدى رجوعه إلى مصر قال: «لقد استفدت في كلِّ حال، إذ حفظتُ في حلب والشام وبيروت عن ظهر قلبٍ، الألحان الكنسية والتواشيح وضروب الغناء القديم، ودرست على أساطين الموسيقيين عثمان الموصلي وسواه..»
وبعد سنتين من الدّأبِ نحو النضوج والتخمّر في الإسكندرية، عاد يناطح النجاح من قمّته، حيثُ خاب للمرّة الأولى، فقصد الشام من جديد يستقرأُ إعجاب «السمِّيعة» هناك. وإذ نال إعجاباً ونجاحًا وشهرة، رجع إلى مصر متمكّناً من نفسه ليقتحم المسرح الموسيقيّ والتأليف الأوپراتيّ والقصيدة والدور والموشّح والتأليف القديم والحديث معاً، وكان نجاحه في الشام «بمثابة مولد جديد لفنّه» حسب قول ابنه حسن سيد درويش في كتابه «من أجل أبي سيد درويش».
وكذلك عبد الوهاب، بعدما تعلّم عزفَ العود على يد محمد القصبجي وبعدما غنّى سلامة حجازي ومحمد عثمان وعبدو الحامولي، وإثرَ مواجهاته الغنائية مع عبد اللطيف البنّا وصالح عبد الحيّ، ومرافقة سيد درويش وانتسابه إلى مدرسته في التجدّد وحضور أمير الشعراء أحمد شوقي إلى جانبه... زار حلب عام 1922 مع فرقة نجيب الريحاني، ففوجِئَ بأنّ عدد الحضور في الليلة الأولى من حفلاته لا يكاد يبلغ عدد أصابع اليدين. وإذ إبدى استغرابه قيل له: «أنت في حلب؛ وهذا العددُ من الحضور هو بعضُ اللجنة الفاحصة. وستعلم غداً قدرَ نجاحك إذا تواكب عليك الحلبيّون أم غَرُبُوا». وجاءت الليلةُ الثانية مكتظّة حقاً بالحضور بعدما خلب عبد الوهاب سمعَ «السمّيعة» الحلبيّين ولُبابَهم. وبقي عبد الوهاب يُخبر هذه النادرةِ عن نفسه كلّما التقى أهل حلب، كالفنان الأصيل صباح فخري، وقد سمعناها منه ومن سواه شخصياً، وقرأناها مدوّنةً في كتاب «النهر الخالد» بقلم الأديب سعد الدّين وهبة : «إنّها كانت لي مدرسة... وحاجة جديدة، جداً عالية».
امتحان كريمة الصقلي في دمشق يُكافأ بتجديد العقد لأمسية ثانية. الفنّانة كريمة الصقلّي التي ستفتتح مهرجان «بيت الدين» 2008، إنسانٌ فصوت ولحن وتجويد وإنشاد وإحساس، موطنها مملكتان: المغرب والطرب.
بعدما اكتنزت كريمة الصقلّي تراث الموشّح الأصيل العائد من الأندلس والمستقرّ في أرضها، و«الملحون المغربيّ» وهو التراث الشعبي باللغة المحكيّة بمقاماتهما وإيقاعاتهما الغنيّة، وبعدما شاءت أن تكون صوتاً صادحاً في أعماق ذاتها ربع قرن، أطلّت هذه الفنّانة المغربيّة المتأصّلة في 13 أيار (مايو) 2008 تسقي غليل آل الطربِ في دمشق. عجَّ «قصر العظم» بمجلس لا نُبالِغُ إن قلنا إنّه لجنةٌ من «السمّيعةِ» بلغت حوالى ألف مستمع، أو قل: ألف منصت أو ألف صيّاد طرب أصيل، عُرْبَةً بعُرْبَة وقَفْلةً بقَفْلَة...
افتتحت كريمة الصقلّي أمسيتها بموشح أندلسي مغربي: «يا ليل طُل» وهو على مقام البياتي وإيقاع الوحدة الطويلة المتهادي، جاء قرار مقام البياتي على الدوكاه واللحن المنساب الهادئ مدخلاً للأُمسية حكيماً ذا سلطان واستقرار. فصفّق الجمهور لبرهة قصيرة كأنّه يقول: وماذا بعد؟
أتبعَتْ كريمة الصقلّي الموشح بطقطوقة لعبد الوهاب: «محلاها عيشة الفلاح» مختارةً إيّاها بحكمة على مقام البياتي ايضاً، فجاءت امتداداً للاستقرار الذي بسطته الموشّحة الأولى في مسامع الجمهور ومتميِّزةً عن تلك الأولى بالحَداء الشعبيّ لأهل الأرض، ما سمح للدمشقيّين باكتشاف هذا الصوت المليء استقراراً وكرماً من دون أن يبخل بالحنان والفرح، فتضاعف الرضى وازداد تصفيق «السمّيعة» قليلاً كأنه باقٍ على حذره. ثم قدّمت أغنية «القلب وإلّا العين» من خزانة سعاد محمد على مقام الراست وإيقاعها الثنائيّ المتلاعب بفرح بين الوزن ومعاكسته، فأحسّ الجمهور كيف تداعب كريمة الصقلّي الطرب الخفيف وتلبسه رداءَ النبل، فتأكد ارتياحه وصفّق بما يكفي أن تشعر الفنّانةُ بالترحاب، دون المزيد. ثم سلطَنَت آلاتُ الطرب على مقام السوزناك، لتسترسل كريمة بأداء «هذه أنوار ليلى» موال من الشعر الصوفي لعائشة البَعونيّة بنت بلاد الشام التي اختارت لثراها حلباً، مستقراً أخيراً. ويا روعةً من أنوار! فبلحظة خاطفة، تهدّلتِ الأنغامُ على مقامي الحجاز والراست وعائلتيهما. انطلق صوتُ كريمة الصقلي من القرار رئيفًا بوقْعِ الشعر حليماً بوزن قوافيه مستقرّاً حيث بدأ، بعد تفقّد حنايا المقام بتؤدة ونعمة، آب اللحنُ على فيها، كنقطة المياه، إلى منبعه، ليُسدِلَ على الجمهور شعوراً بالرؤيا المنظورة أو «بالحضرةِ» المحسوسة، يُرجِّع في خاطره عَودَ المخلوقِ إلى خالقه.
ارتجلت كريمة الصقلّي ألحاناً وألحاناً، على متن عشقِ عائشة البعونيّة. جادت وعالجت فنّ الصوت وعلمَ العروض وفِقه المعاني الصوفيّة معاً بكل جدارة. فأدرك المجلس الأصيل أن كريمة الصقلي تقبض على ملَكَة الطرب بعلم وصَنعة وسلطان، وأنّها تُنشدُ لمتعتها حتى لينجرف السامع بزهو هذا التمتّع الجوّاني انجرافاً. علم الحاضرون أنها لم تختر الغناءَ، إنما الغناءُ اختارها ونذرها له ف ي هيكل المقام المقدس. وعندها، لا تسل يا صديقي ما جرى في قصر العظم، كيف تعانقت النهدات وعلت الآهات، وهبط السحر مع غناء صار صلاةً في صوت كريمة الصقلّي. وكمن يُسابق شعوراً بالملء والكمال، انتصب الجمهور الدمشقيّ والحلبيُّ يصفّق واقفاً والأمسية لمّا تزلْ بعدُ في بدايتها. ولم تمضِ ليلةٌ على هذا الإنجاز حتى علا صوتُ صباح فخري وحمزه شكّور والدكتور نبيل اللّو والدكتورة حنان قصاب حسن... بين أصوات الجماهير الذّواقة، تطالب كريمة الصقلّي بأمسية ثانية، ما اضطرّها إلى تأخير سفرها إلى البحرين لتلبية الطلب الغالي بحب وامتنان.
وها هي اليوم كريمة الصقلّي تستعدّ لافتتاح «مهرجانات بيت الدين ــــ 2008» ليلة السبت 12 تموز (يوليو). فما عساها تكون تلك الليلة في بيت الدين؟ إني لأرى طنطور الأميرات في قصر بيت الدين يترنّح منذ الآن لما ستؤديه كريمة الصقلّي من ألحان تكشف ثراء خزانة العملاقة أسمهان من الغناء الشرقيّ والغربي والطرب الثقيل والطرب الخفيف والغناء الأوبراتي في أشكال القصيدة والطقطوقة والمونولوج والنشيد...
سأجدُكَ ليلة 12 تموز/ يوليو التي تفتتح مهرجانات بيت الدين، جليس الأميرة كريمة الصقلّي، وحولها عقدان: عَقدٌ من الشعراء يوسف بادروس وأحمد رامي وليلى الفقيه وأحمد شوقي وبيرم التونسي والأخطل الصغير وعبد العزيز سلام ومأمون الشنّاوي... وعقدٌ خالصٌ آخر من الموسيقيّين المبدعين: محمد القصبجي وشقيق أسمهان فريد الأطرش وفريد غصن وعبد الوهاب وزكريا أحمد ومدحت صالح...
وسأَجِدُني هناك متنصّتاً لأشهَدَ كيف تُوْقِفُ كريمة الصقلّي الزمَنَ في النَّغمِ ولو ظَنَّ النَّغمُ أنَّهُ زمنٌ مِن رحِيل.
كريمة الصقلي ــــ 12 تموز (يوليو) الجاري ــــ بيت الدين: 01/373430
www.beiteddine.org

يوم السبت تُصدر «الأخبار» ملحقاً خاصاً بمهرجانات الصيف في العالم العربي