حسين بن حمزةفي مجموعته الثالثة «الجاهليُّ الذي أنا» (منشورات وزارة الثقافة ــــ دمشق)، يستكمل الشاعر السوري خضر الآغا انسجامه مع فكرة عدم حصر الشعر الراهن تحت يافطة القصيدة اليومية. هذه الفكرة موجودة في كل نصوص المجموعة التي أُريد لها تكون كتاباً شعرياً ذا روح واحدة. القارئ الذي اعتاد أن يقرأ قصيدة يومية أو شعر تفاصيل، لن يجد شيئاً من ذلك في هذا الكتاب. هناك سعي دائم إلى رفع سوية الكلام وتمتين العبارات. كأن الشعر يقوم بمهمتين في وقت واحد: كتابة الشعر أولاً، وتجنُّب ما هو يومي وشفوي ومهمل ثانياً. تجنُّب اليومي ليس مسألة عابرة أو شكلية في شغل الآغا. هناك ثقل فكري ودوافع نقدية تحت كتابته. هذا لا يعني أن هذه الكتابة منجزة وفق إيعاز نقدي صرف، ولكن القارئ لا يستطيع تجاهل الثقل النقدي وهو يطالع قصائد الكتاب. منذ البداية، يدرك القارئ أنه مدعوٌّ إلى نبرة أعلى مما اعتاد عليه. الشاعر نفسه يساهم في تقوية هذا الإحساس، حين يختلق لأولى قصائد الكتاب مرجعية تاريخية، مدعياً أن منقّبي الآثار وجدوها على لوح حجري: «أدركتُ، حين اندلعتُ فيك كهندي أحمر، دقة أصابعك التي بيديّ/ أدركتُ أن وصيتكِ التي، مثل مركب متروكٍ أسفل الفهرسِ، عصفورٌ أبيض/ وأنني مثل شاعر مخلوع، تمرّ عليه القصيدة، ولا تلقي عليه الكتابةَ/ ولا التحية».
من الواضح أن صوت القصيدة أعلى هنا. اللغة مختلفة. إنها أعتق وأكثر معجمية وفصاحة مقارنةً مع الكلام العادي الذي يسود في الشعر اليومي. المشكلة أن القارئ لا يعرف الهدف من اختلاق أصل تاريخي لما يقرأه، وخصوصاً أن اللغة الموجودة في هذه القصيدة تستمر في القصائد التالية أيضاً. كما أن ورود مفردات مثل: جريدة، شارع، إشارات المرور، مقهى، هاتف ... تزيد من عبثية الادعاء التاريخي وتُفقِده التأثير الذي رسمه له الشاعر.
الواقع أن كل هذا (اللغة المتعالية على الواقع اليومي، والادعاء التاريخي) ليس له فائدة إذا لم يحضر الشعر في القصيدة. المشكلة ليست في اللغة. يمكن أن تكون اللغة يومية أو غير يومية. مثقلة بالتاريخ والبلاغة أو مكتفية بخفة الكلام العادي. الشعر الحقيقي موجود قبل هذه الأفكار والتقسيمات.
قد تكون اللغة العالية حلاً مقبولاً للهرب من التشابه مع اليومي. ولكن اللغة العالية لا تستدعي شعراً «عالي» الجودة بالضرورة. أحياناً تظل اللغة لغةً في هذه الكتابة، كما في هذا المقطع: «ينزعُ، من جسد التاريخ، البردَ العالقَ فيه/ يقطِّرُ خمر الكتابة على أدمغة الهامشيين/ فيذهبون طيوراً/ في/ اللاوعي». أو يكتفي الشاعر بإنجاز تشبيه متواضع مثل: «رصيفكِ الذي ــــ ذات يوم ــــ مشيتِ عليه/ وسادتي».