مونودراما شعريّة ــ موسيقيّة تحاكي اللامقامإنّها سفيرة التوجّه الحداثوي ـــ المعاصر على الساحة العربيّة. عملها الجديد «حلماً أسْفرَت» يمضي قدُماً على دروب النضج، جامعاً بين نصّ جاك أسود، وصوت فاديا طنب الحاج، والبعد الالكترو ـــ أكوستيكي (طارق عطوي)، وعزف فرقة Fragments البلجيكيّة. الليلة وغداً في بيروت
بشير صفير
إذا رأينا عدم ركوب الموجة الفنية التجارية في العالم العربي تغريداً خارج السرب، يمكن القول إنّ جويل خوري تحلّق في فضاءٍ آخر ثنائيّ الأبعاد. على المستوى الأول، تجد هذه المؤلفة اللبنانية مَن يغرِّد معها، ومَن يسمع هذا التغريد. وهنا نتكلم عن تجربتها في عالم موسيقى الجاز.
أما على المستوى الثاني، فتكاد تكون وحيدة، تبدع لقلّة تسمعها، وتقصد تجربتها (الرائدة عربياً والمواكِبة لتجارب رائدة عالمياً) في عالم الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة. والليلة، نحن على موعد مع عمل كلاسيكي جديد لجويل خوري: مونودراما باللغة العربية بعنوان «حلماً أسْفرَت». لا نعرف شيئاً عن الموسيقى لناحية المضمون ونمط التأليف، ولو أنّه يمكن التكهن ببعض الخصائص استناداً إلى التركيبة الموسيقية التي ستؤدي العمل، ومعرفتنا السابقة بالمؤلفة وتوجّهاتها الفنيّة العامة في هذا المجال. أما نصّ هذه المونودراما فولّفته جويل عبر قصائد متفرّقة للشاعر والناقد الفنّي اللبناني جاك أسود، ويمكن ــــــ عبر تحليل النصّ شكلاً ومضموناً ــــــ تكوين تصوّر مبدئي عن الموسيقى التي سترافقه.
«حلماً أسْفرَت» نصٌ هذياني وجودي النزعة، تصويري، واقعي في جزء منه وخيالي في الجزء الآخر... أبرز ما يمكن ملاحظته في النص/ القصيدة (شعر حديث)، أنّه مبني بجزء كبير منه على مبدأ التكرار (تكرار الكلمة والفكرة). والمفردات المستعملة تعطي إحساساً ثابتاً بالحركة الثابتة والمتسارعة، أو بثبات حالة المتكلِّم النفسيّة، وتُصوِّر بمعانيها وأسلوب صفِّها دينامية المشهد بشكل واضح.
استناداً إلى ذلك، يمكن القول إنّ جويل خوري اعتمدت على الأرجح التكرارية الموسيقية القريبة من تجارب المدرسة المينيمالية الأميركية ومؤسسي تيارها، ونقصد بالأخص الأعمال الأوبرالية التي كتبها المؤلف المعاصر فيليب غلاس، وتعتمد تكرار الكلمة في الحوارات (ويمكن أيضاً الإشارة هنا إلى أعمال ستيف رايش، إذا وسعنا منظار المقاربة). وهي، إن اعتمدت فعلاً هذا التوجه، فستختلف عن غلاس بالبناء الهارموني. إذ إنّ الأخير لم يسلك أبداً درب اللامقامية الذي انطلق مطلع القرن الماضي مع ما يُعرَف بمدرسة فيينا الثانية، بينما استعملت جويل خوري هذا الأسلوب في التأليف في جزء من العمل، كما أشارت إلى ذلك في النص المُوزَّع على الصحافة.
اعتماد اللامقامية في «حلماً أسْفرَت» يأتي مبرَّراً في الواقع. وهنا تجب الإشارة إلى أنّ اللامقامية في الموسيقى ينتج منها نغمٌ يغوص في أعماق الذات البشرية، إلى درجة ينفلت من التعبير عن حزنها أو فرحها. هكذا يكون اللجوء إلى هذا الأسلوب في مَوسَقة الكلمة الدّالة عن الاضطراب البشري العميق، دعماً لعملية التعبير عن غموض هذه الحالة. لدى اعتماد المقام في الموسيقى الغربية يُنسَب النغم إلى الفرح أو الحزن إجمالاً. من جهة أخرى، اعتمدت جويل خوري الجمل اللحنية الجميلة ذات التعبير المباشر، وبعض الاستعارات الشرقية التي تقرِّب العمل من بيئته الفنية والأدبية الأصلية، وأخرى من الجاز نغماً وإيقاعاً، تعكس إلمام المؤلفة بهذه الموسيقى وإصرارها على توظيفها بغية توقيع العمل بالاسم الموسيقي الكامل.
ويتكون مونودراما جويل خوري الجديد من مقاطع آلاتية بحضور هامشي، لحساب المقاطع المغناة بمرافقة موسيقية. أما النسيج بحد ذاته فيتكون من عزف الآلات الحية لفرقة Fragments، وهي مجموعة بلجيكية مختصة بموسيقى الحُجرة وتتكوَّن من عازف الفلوت سيمون ويدارت، وعازف الفيولون إليوت لاوسن، وعازف الألتو ماتيه شوكس، وعازف التشيلو ماتيو ويدارت. وتشارك جويل خوري عزفاً على البيانو، في حين يتولى الإدارة الموسيقية قائد الأوركسترا الأرمني هاروت فازليان الذي نعرفه خصوصاً من حفلات الأوركسترا الوطنية اللبنانية.
من جهة ثانية، يدخل في التركيبة الموسيقية للعمل، شريطٌ صوتي إلكتروني شارك في تصميمه طارق عطوي، وهو من أبرز العاملين في هذا المجال في لبنان، وسبق أن تعاون مع جويل خوري في مشروع قُدِّم إلى الجمهور في آذار (مارس) الماضي (Lap Bop). وقد يعود اللجوء إلى مزاوجة الأكوستيكي بالإلكتروني إلى تخلل النص الشعري مفردات تدل على المادي الأساسي (ضوء، عصفور، امرأة...) والمادي الاجتماعي (الباب، النافذة، النصل...).
أما اللاعب الأساسي في هذا العمل فهو الصوت البشري. عمل جويل خوري الجديد كتب للمغنية اللبنانية العالمية فاديا طنب الحاج صاحبة التجربة الكبيرة في عالم الغناء الشرقي القديم (ترانيم دينية وموشّحات) والأوبرالي الغربي، وخصوصاً الحقبة الميدييفالية/ القروسطيّة، والحقب التي سبقت فن الأوبرا وأسست لمدارس الغناء في الموسيقى الكلاسيكية.
وانفراد الألتو اللبنانية (الصوت الجهور عند النساء) في عملية الأداء، وخلو العمل من حوارات ثنائية أو متعددة، يسقط صفة الأوبرا عنه، لذا أطلقت عليه تسمية «مونودرام» لناحية التصنيف الشكلي. وهو يقترب تاريخياً (لناحية الشكل) من تجربة المؤلف الفرنسي فرانسيس بولنك، أحد رواد الحداثة الموسيقية في القرن العشرين، في رائعته «الصوت البشري» (مونولوغ للأديب الفرنسي الكبير جان كوكتو) التي تؤديها شخصية نسائية وحيدة على المسرح، مع الإيحاء بوجود شخصية أخرى من الجهة الثانية لسماعة الهاتف (النص هو الحوار الأخير بين شريكين قررا الانفصال). قد يكمن الخلاف الجوهري بين العملين في غياب اللعبة المسرحية عن أداء «حلماً أسْفرَت»، أي في تزامن الغناء مع التمثيل والتعبير الجسدي للمؤدي، كما تغيب غياب السينوغرافيا. لكن علاقة القرابة واضحة وأكيدة.
تجدر الإشارة إلى أن «حلماً أسْفرَت» عمل كتب لمؤسسة Quart de Ton (“ربع الصوت”) البلجيكية. ويقدّم للمرة الأولى عالمياً هذا المساء وغداً، ليأتي بمثابة تحيّة من جويل وشركائها إلى «مهرجانات بعلبك الدولية»... فهل تحمل هذه التجربة، الفريدة من نوعها في المنطقة، إضافة ناجحة إلى الموسيقى؟


8:30 مساء اليوم وغداً الأحد ـــــ قاعة بيار أبو خاطر، الجامعة اليسوعية، طريق الشام: 03،338646


الحاجة إلى «صوت» جديد
يعرف متابعو مسيرة جويل خوري التي نشهد اليوم ولادة عملها «حلماً أسْفرَت»، أنّها سفيرة الموسيقى الكلاسيكية ذات التوجه الحداثوي والمعاصر في لبنان. اطلاعها على تجارب القرن العشرين ومدارسه الكثيرة في أوروبا والولايات المتحدة تحديداً، ينعكس على حسها الموسيقي وأسلوبها في التأليف.
ترد في النصّ المرفق بالدعوة، إشـارة إلى أنّ بعض المقاطع الموسيقية وُضِعَت على أساس لامقاميّ. فما هي اللامقامية في التأليف الموسيقي؟ يصعب شرح هذه العبارة بشكل دقيق في بضعة سطور، لكن لنحاول تبسيط قواعدها واختزالها بأبرز ميّزاتها العلمية.
ولدت اللامقامية مطلع القرن العشرين (وتُعرَف أيضاً بالدوديكافونية أو التسلسلية، رغم أن المصطلحات الثلاثة ليست مرادفات بالمعنى الحرفي)، أي من حاجة المؤلفين إلى خلق «صوت» جديد بعد أكثر من ثلاثة قرون من الكتابة الموسيقية على أساس المقامات الغربية الـ24.
وثمة إشارة ضرورية إلى أنّ ولادة هذا التيار الجديد لم تصنع تحولاً شاملاً في الموسيقى الكلاسيكية، بل خطاً جديداً، لم يتبنَّه أساساً سوى قلة من المؤلفين. أبو هذه المدرسة هـــو النمســـاوي أرنولد شونبرغ (1874 ـــــ 1951). ثم جاء تلميذاه ومواطناه أنطون فيبرن (1883 ــــ 1945) وألبَن بيرغ (1885 ــــ 1935)، فأطلقا مدرسة فيينا الثانية. لهذه المدرسة بتسمياتها الثلاث، قواعد علمية وصارمة تُلخَّص بالتالي: كل جملة موسيقية تفلت من إمكان نسب نغمتها إلى كبرى (ماجور) أو صغرى (مينور)، هي بالمبدأ لامقامية