كولومبو الجزائري على خطى رجل الأعمال رفيق خليفةفي «ذرة الرمل» تناول تفاصيل اغتيال الرئيس محمد بوضياف... ومع «إمبراطورية الرمال»، يغوص في واحدة من أكبر قضايا الفساد التي عرفتها الجزائر. التهديدات الكثيرة التي تلقّاها لم تُثنه عن عزمه، لكنّ هل ما كتبه هو حقاً من عيون الأدب؟

نوال العلي

الكاتب الجزائري صلاح شكيرو (1954) «مقتنع» بأنّه قام «بعمل جيد ومفيد»، وعليه الآن أن يُقنع قارئ روايته «إمبراطورية الرمال» (دار الساقي) بذلك... وخصوصاً بعد أن يقرأ ديباجة الإثارة والتشويق المكتوبة على الغلاف الأخير: في العمل «حوادث ودسائس وعلاقات حب عاصفة»، كما يستمتع القارئ «برواية ذات نفَس بوليسي» عن «أكبر عملية احتيال في هذا القرن»، حيث شكيرو «يتوغّل في رواية تفاصيل السقوط المروّع» لأحد الأثرياء، ويكشف «سلسلة المكائد التي تحاك بغية إزاحة الخصوم».
قد يظنّ قارئ هذه السطور أنّه سيعيش أجواء الرواية مع المفتّش كولومبو، لكنّ الأمر ليس كذلك. موضوع الرواية ــــ ومنه تستمدّ أهميّتها ــــ أكثر جديةً من أن يؤخذ على محمل الإثارة فحسب، وإن لم تكن الإثارة مثلبة في مثل هذا النوع من الكتابة، في عمل اقترب من التحقيقات البوليسية واللغة الصحافية. وهو أمر يبرّره شكيرو بعمله في الصحافة لأكثر من ثلاثين عاماً: «ليس سهلاً التخلّص من تأثير أسلوب الصحافة، وهو ليس عيباً في الأدب إذا أُحسن استخدامه، والوصف السريع والدقيق والمشحون يناسب هذا النوع من الروايات».
من «ذرة الرمل»، غاص شكيرو في «إمبراطورية الرمال» الجزائرية وتناقضاتها السياسية العنيفة. وانتقل من تفاصيل قصة اغتيال الرئيس محمد بوضياف في الرواية الأولى، إلى واحدة من أكبر قضايا الفساد في الجزائر في عمله الأخير الذي أمضى ثلاثة أعوام في جمع مادته. تستند أحداث الرواية إلى فضيحة شهيرة انفجرت في الجزائر عام 2003، عن رجل الأعمال الأربعيني رفيق عبد المؤمن خليفة الذي ضمت مجموعته مصرفاً وشركة طيران ومحطّة تلفزيون، وقيل إن مهمتها كانت تبييض أموال الجنرالات...
إنها قصة بفضيحة سياسية ــــ مالية، بطلتها مجموعة اقتصادية لرأسمالي شهير، «اسمه في الرواية رياض خرطال» كان في بداية حياته عضواً في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. قامت شركاته بعمليات تبييض أموال ضخمة يُعتقد أن لها علاقة بتمويل نشاطات الإرهابيين، مع موافقة ضمنية من السلطات الجزائرية والفرنسية. وكانت ترتبط بعلاقات مشبوهة مع متنفّذين في الدولة. وحين يُكتشف أمر «خرطال» وتصادر أمواله، يبيع عدداً من ممتلكاته ويفر إلى لندن، لكنّ اللغط يكثر حوله، وتتحطم سمعته في الجزائر وفرنسا، فيقرر العودة في طائرة مع مجموعة من الصحافيين ليعقد مؤتمراً يعلن فيه الحقيقة، وأسماء المتورّطين معه. وفي طريقها إلى الجزائر، تختفي الطائرة بمن فيها، كأننا أمام كاتب يرغب بجمع أسباب الإثارة من أطرافها. فالأجواء البوليسية الغامضة، والمعلومات والأرقام، واستخدام أسماء أشخاص حقيقيين... أمور لا تكفي. فلمَ لا توظف العلاقات العاطفية والجنسية أيضاً، حتى وإن حشرت حشراً على حساب سياق الرواية؟!
من المبالغة القول إنّ روايته تزخر بالمشاهد الجنسية الكفيلة بالحؤول دون نشرها، أو سحبها من السوق، أو الاحتجاج عليها كما جاء في الصحف الجزائرية وقت صدورها، بحسب شكيرو. ذلك أنّ بعض الروايات العربية يحوي ما هو أكثر بكثير مما كتب في «إمبراطورية الرمال».
صدرت الرواية في نسختها الأصلية بالفرنسية بعنوان Zone de Turbulence عن Edisoft عام 2007. ورغم أن المؤلف قدّمها للمترجمة اللبنانية هدى الفقيه لتعريبها، وقام بتنقيحها وإعادة صياغتها، إلا أنّه يعدّها روايةً مكتوبة بالعربية وليست مترجمة، مع أنّه «يعيب» على نفسه ترجمة أعماله، إلا أنّه حريص على أن يكون حجم الإحساس في النسختين هو نفسه، فيغيّر في العربية عبارات يعتقد أنّها «لا تناسب هذه الثقافة وإرثها وتراكماتها»، بمعنى أنها لا تُحدث الأثر نفسه الذي ينتج من مثيلتها في الفرنسية.
لكنّ نشر هذه الرواية بنسختها الفرنسية لم يكن ليمرّ بشكل عابر في الجزائر. كان شكيرو على يقين أنّ دور النشر لن تقبل بها، لما فيها من معلومات تتعلّق بفضيحة الفساد، أو من مشاهد جنسية قد تثير حفيظة الأصوليين. فما كان منه إلّا أن وزع فصول الرواية على أربع مطابع، ولم يكن أيٌّ منها يعرف بمضمون ما يقوم بطباعته باستثناء مصمم الغلاف الذي جمع الفصول كلها، وظهرت ثلاثة آلاف نسخة منها في السوق الجزائرية من دون مقدمات.
لدى صدورها، شغلت «إمبراطورية الرمال» الصحافة الجزائرية، وتلقى شكيرو اتصالات غامضة تنصحه بسحبها من السوق. يقول: «لا أنكر أنّني خفت. كنت مقتنعاً بعملي وأهميّته ومستعدّاً لتحمّل مسؤوليته». ولمّا لم يستجب شكيرو، اشترت جهة مجهولة نسخ الرواية كلّها من المكتبات ومن الموزّع، فاختفت «إمبراطورية الرمال» من السوق الجزائرية.
لماذا كُتبت هذه الرواية؟ أو لماذا تحوّلت القضية إلى رواية؟ يجيب صاحبها برغبته في خلخلة التوازن الموجود «وإزعاج الواقع». فهل يستقبلها المتلقّي المشرقي كما فعل المغاربي أو الأوروبي؟ أغلب الظنّ أنّ الإجابة هي بالنفي. فما يعني القارئ المشرقي حقاً هو حجم الإبداع الذي تحتويه الرواية، لأنّه غير معني مباشرةً بالقضيّة وحيثياتها وتشعّباتها. في حين أنّ ما يُعدّ قوةً في تفاصيل الرواية، هو واقعيتها التي لن تثير بدورها سوى القارئ المحلّي.
وقد يقود هذا إلى مسألة أخرى: ماذا تضيف الكتابة إذا لم تكن مُحكمة إبداعياً لقضية على هذه الدرجة من الأهمية؟ وماذا تستنزف منها؟ وهل شكيرو صحافي وصل إلى معلومات، أم أنّه روائي توافرت لديه معلومات يرغب بتحويلها إلى سرد؟ لقد ضاعت القصة في حيص بيص، فلا هي هذه ولا تلك.
والسؤال لا يتعلق بكتابة هذا النوع من القصص، بل بكيفيّة كتابته. وهذا ما لم يوفّق فيه شكيرو، إذ بدت الأحداث كأنّها مقسومة إلى نصفين: التفاصيل والتحقيقات في جهة، والقصص العاطفية والخيال الإبداعي في جهة أخرى، «أعمل بهذه الطريقة عمداً حتى يظل القارئ متوثّباً ومتنقّلاً بين الواقع والخيال».
الكاتب يحب لقارئه أن «يقرأ ويشمّ ويرى ويزعل ويُستثار»، ويصف نفسه لحظة الكتابة بأنّه «الرب الأعظم يهب الحياة لمَن يشاء، ويخلق من يشاء، ويعبث بالمتلقّي وقت يشاء». وهو نفسه من يرى أنّ «الكتابة ليست صعبة عندما تتضح الشخصيات». على أي حال، قلّة ترى في الإبداع مسألة سهلة، إذ يبدو أنّ كاتبنا لا يتفق مع الروائي الأميركي ماريو بوزو، صاحب «العرّاب» الذي يقول: «من الصعب أن نكتب، حتى كتاباً رديئاً».


يوم مقتل الرئيس (بوضياف)

أصدر صلاح شكيرو خمس روايات، بدأها بـ«بوح الغرفة 120»، مستنبطاً العنوان من قانون يحمل الرقم نفسه صيغَ لإبعاد الشيوعيين عن الحكم. لكن الرواية التي شهرت المدير السابق لـ«الوكالة الوطنية للنشر والإشهار» Anep، هي «ذرة الرمل» (1998) التي تروي تفاصيل قصّة اغتيال الرئيس محمد بوضياف، وكأنّ شكيرو بذلك يقوم بواجبه نحو الذاكرة في ما يتعلق بخلفيات تلك الهزّة الكبرى في التاريخ الجزائري الحديث.
نُشر العمل على شكل حلقات في صحيفة Demain l’Algerie، ما سبّب إقفال الجريدة التي لم تعد إلى الصدور حتى اليوم، كما يروي شكيرو. بدأت الفكرة في شكل مشروع فيلم وثائقي عن اغتيال بوضياف بالاشتراك مع صحافيين آخرين، علماً بأنّ شكيرو كان مقرّباً من الرئيس الجزائري الراحل. إلا أنّ الكاتب اكتشف، بعد ثلاثة أسابيع من بدء العمل على الفيلم، أنّ هناك تعارضاً كبيراً بين ما كان يبحث عنه وما يريده الصحافيان الآخران، فتخلّى عن المشروع وظهرت الرواية على شكل سيناريو، كما كُتبت أساساً. في الواقع، هذه ميزة يمكن أن نلمسها في كتابة شكيرو، إذ تبدو كأنّها معدّة تماماً للتصوير. نظراً إلى الدقة التي تكتنفها في وصف المشاهد والحركة والأكشن والشخصيات.
وهنا، يلفت نزوع أصحاب القلم على اختلافهم إلى طرق باب العمل الروائي. فما الذي يدفع الكثير من الصحافيين والشعراء وكتاب السيناريو والمسلسلات والمسرح إلى أن يصبحوا روائيين، وخصوصاً في العالم العربي؟ كأنّهم يقولون إنّ أيّ إنجاز في الفنون الأخرى لا يعادِل روايةً واحدةً...