strong>الجزائر شرّعت أبوابها للشعر و«قضايا التحرر»، وعانقت المشرق العربي، واضعة فلسطين على منصّة الشرف في الذكرى الستين للنكبة. لكنّ الأصوات الجديدة في الـ«عكاظية» لم تصمد أمام «شعراء المليون». غزوة خليجية لـ«بلد المليون شهيد»؟
نجوان درويش
الآن، وقد بات المرء ينظر من بعيد، يمكن إيراد مجموعة ملاحظات حول «عكاظية الجزائر للشعر العربي» التي نظّمتها أخيراً وزارة الثقافة الجزائرية. هذه الملاحظات ترتبط بالمناسبة، سواء كانت مهرجاناً شعرياً أو «إحياءً ثقافياً» لمناسبة وطنية، هي ذكرى الانتفاضة المدنية السلمية للجزائريين في وجه الاستعمار الفرنسي (8 أيار/ مايو 1945)... أو كانت مناسبةً «قوميّة»، تريدها الجزائر لحثّ الخطى نحو السلم الأهلي، والمصالحة والانفتاح ثقافياً من جديد على فضائها العربي، وخصوصاً المشرقي.
«العكاظية» التي شارك فيها 30 شاعراً من مختلف الدول العربية، وحوالى 50 شاعراً جزائرياً، أعادت طرح «الشعر وقضايا التحرر» الذي كان شعار الدورة الثانية. وإن كانت «القضايا» في الشعر موضوعاً متجاوَزاً لبعضنا، وتبدو امتداداً لمفهوم الغرض الشعري في القصيدة العربية الذي تخطته التجربة الشعرية العربية؛ فإنّ قضايا التحرر ذاتها ما زالت سؤالاً راهناً مطروحاً على المجتمعات العربية. إذ إنّ بلدين عربيّين على الأقل يقبعان تحت احتلال مباشر، وثمة بلاد عربية أخرى لم تنجز تحرّرها الوطني، إلا في جانبه الشكلي. من هنا يبدو الشعار في مكانه: «الشعر وقضايا التحرر» تفرّع إلى محاور نوقشت في ندوات على هامش المهرجان، مثل ندوة «الثورة الجزائرية في الشعر العربي»، و«القضية الفلسطينية في الشعر العربي»، و«المقاومة»، و«القضايا العربية في الشعر». وهنا يبدو التساؤل مشروعاً حول مستوى المقاربة المعرفية لهذه المحاور، وإن كان ما قُدّم في المناقشات يضيف معرفياً إلى علاقة الشعر بـ«القضايا»: أم أنّه يدخل في خانة الإنشاء النمطي المصاحب للمناسبات.
وسؤال «الشعر وقضايا التحرر» يكتسب مشروعيةً مضاعفةً، حين يُطرح في الجزائر التي خاضت أقسى مواجهة مع الاستعمار في القرن العشرين، وكانت ثورتها في طليعة الثورات على مستوى العالم. أما اختيار فلسطين ــــ في الذكرى الستين لاحتلالها ــــ كضيف شرف الدورة فيحمل أكثر من دلالة: هناك أولاً إشارة إلى المخيّلة العربية. فاستعمار الجزائر دام قرناً وثلث قرن، وتمّ كنسه... وعليه فستون سنة احتلال ليست تطويباً للاحتلال الإسرائيلي كما يُخيّل لبعضهم. فما كنسته الجزائر بتضحياتها يمكن أن تكنسه فلسطين أيضاً. وهناك أيضاً تأكيد على القضية الفلسطينية. «ليست مصادفة اختيار فلسطين ضيف الشرف... فلسطين محك وحدتنا»، قالت خليدة التومي وهي ترحّب بالشعراء. ربما كانت وزيرة الثقافة الجزائرية تخاطب العرب بتلك الجملة، لكن ما تلمسه من الشعراء والمواطنين الجزائريين يجعلك تشعر بأنّ فلسطين هي محك وحدة الجزائريين أيضاً. ولعلها القضية الوحيدة التي لا يختلفون عليها، ولا تختلف عليها الحكومة مع «خصومها»... ولا يختلف عليها «التقليديون» و«الحداثيون».
أما في ما يخصّ الشعر كفنّ له ديناميكيته الخاصة، و«عكاظية الجزائر» كملتقى شعري، فهناك استحقاقات تنبغي مواجهتها حتى يتمكن من الاستمرار كملتقى يحمل قيمته وضرورته الفنية، ولا يتعكّز فقط على القيم الجامعة والمناسبات الوطنية والقومية. وأوّلاً ينبغي إنقاذ الملتقى من النزعة التقليدية الغالبة على الشعراء المشاركين. إذ إنّ غالبية المشاركين في الدورة غلبت عليهم المنبرية، وبدا الكثير من الأمسيات حواراً مغلقاً بين حناجر الشعراء وآذان المستمعين. وما فاقم الأمر دعوة عشرة «شعراء» من أبطال برنامج «أمير الشعراء» على فضائية «أبو ظبي» التي انهمكت مع شقيقاتها الخليجية بمسابقات شعرية مثل «شاعر المليون» (مليون درهم) و«فارس الصحراء»... لا تمكن الإساءة إلى الشعر العربي بشكل «أفضل» ممّا فعلته هذه الفضائيات عبر التنافس ببرامج مثل «ستار أكاديمي»، في مكان لا تصحّ فيه المنافسة، وفرضها بالتالي لأسوأ ما تنتجه ثقافة النفط وفضائياته على جماهير عربية تتشوّه ذائقتها بنماذج «شعرية» بائسة ومتجاوَزة. ما يضرب مسيرة الحداثة الشعرية العربية التي تسعى إلى التحرّر من كل ما هو ديماغوجي ولاشعري في القصيدة التقليدية، ويضرب خصوصاً التطور الشعري الذي أنجزه الشعراء في الخليج تحديداً. كل ذلك بتواطؤ «نقّاد» قبلوا لعب دور الكومبارس في تلك الفضائيات. وقد نال أحد هؤلاء (صلاح فضل) نصيبه بهجائية جميلة قرأها شاعر تونسي بعنوان «أقرع مصر»، «انتقم» فيها من الناقد المذكور الذي «أساء» إليه، وحكم ضده في برنامج «أمير الشعراء»!
صحيح أنّ «عكاظية الجزائر» تضمّنت أصواتاً شعرية حديثة قليلة، من الجزائر وخارجها، وبعض شعراء قصيدة النثر الجيّدين من الجيل الجديد، مثل الزميل عبد الإله الصالحي من المغرب، وصالح العامري من عُمان... لكنّ نسبة هؤلاء لم تتجاوز عشرة في المئة... هذا إذا تذكّرنا أن نصف الشعراء العرب، من خارج الجزائر، كانوا من «شعراء» برنامج «أمير الشعراء»!
لكن يظلّ في البال سؤال أحد الشعراء الصعاليك وهو يتصنّع الجدية: «لكن ما علاقتنا نحن بأمراء الشعر وشعراء المليون درهم؟ هل بدأت «الثقافة النبطية الخليجية» بغزو بلد المليون شهيد؟» قبل أن يطلق ضحكة مجلجلة تختتم أسبوعاً جزائرياً مليئاً ورائعاً رغم كل شيء.