خالد صاغيّةثمّة في لبنان من يحاول رفع المسؤوليّة عن نفسه، وتمرير الرسالة الآتية: إنّ تدهور الوضع المعيشي هو نتيجة للأجواء السياسية التي سادت البلاد في الفترة السابقة. وما إن تُفتَح الطريق أمام مرحلة سياسية جديدة، حتّى ينتعش الاقتصاد اللبناني. وغالباً ما تترافق هذه الرسالة مع دعوات من نوع: أبعدوا الاقتصاد عن السياسة، ولا تدخلوا الصراعات السياسية في النقاشات الاقتصادية.
يمثّل وزير المال الحالي الوجه الأبرز لهذا المنطق، يساعده في ذلك ادّعاؤه دخول الشأن العام من باب الدراسة الجامعية، لا من باب الانتماء السياسي. ورغم أدائه دور التلميذ النجيب للرئيس فؤاد السنيورة، تجنّب طوال المرحلة السابقة إطلاق تصاريح سياسيّة، والتزم بحدود وظيفته التي سعى جاهداً لإبراز وجهها التقنيّ ليس إلا، حتّى ليحار المرء ما إذا كان أمام وزير للمال ومهندس للسياسات الضريبية والمالية، أو أمام حرفيّ يقوم بواجب روتيني. أكّد جهاد أزعور أمس أنّ «الوضع الاقتصادي والوضع المالي سيكونان أفضل، وحتى الوضع المعيشي». كأنّ هذه الـ«حتّى» تؤكّد الأولويّات الأزعوريّة التي تحظى فيها المؤشّرات العامّة بمرتبة أعلى من تلك المتّصلة بحياة المواطنين اليوميّة. ذلك أنّه، بحسب وزير المال، «ما يؤثّر سلباً على الوضع المعيشي هو عدم وجود حركة اقتصادية كبيرة تخلق فرص عمل وإمكان نموّ».
لقد حفظ أزعور الدرس جيّداً. فالنموّ، كما تخبرنا الكتب المدرسيّة، يخلق فرص عمل، وفرص العمل تعني انخفاضاً في معدّلات البطالة، وارتفاعاً في مستوى المعيشة. لكنّ الواقع ــ ويا للأسف ــ لا يطابق دائماً النظريّات المبسّطة. والنموّ في لبنان، نتيجة سياسات اقتصاديّة محدّدة ومختارة بعناية، ليس غالباً من النوع الذي يخلق فرص عمل. وقد أدرك اللبنانيّون ذلك، وانتشروا في بقاع الأرض يبحثون عن وظيفة، وباتوا يكترثون لانخفاض القيمة الشرائيّة لتحويلات المغتربين أكثر من اهتمامهم بمعدّلات النموّ العقيم. أمّا سبب هذا الانخفاض، فيعرفه وزراء الحكومة تماماً، ولا سيّما أنّهم غطّوا لعبة رفع الأسعار من أجل امتصاص مسبق لتصحيح الأجور.
تخفيفاً لتوقّعات ليست في محلّها، تنبغي الإشارة إلى أنّ انفراج الأجواء السياسيّة قد يخلق فعلاً بعض الوظائف الموسميّة المعتمدة على السياحة، وقد يحرّك القطاع العقاريّ الذي لا ناقة لكثير من اللبنانيين فيه، باستثناء فقدانهم أيّ أمل بالتملّك داخل بلدهم. لكنّ انفراج الأجواء السياسيّة قد يعني أيضاً إطلاق يد رئيس الحكومة السابق واللاحق في فرض مزيد من السياسات المنحازة لمصلحة طبقة بعينها. لذلك يجب الحذر والانتباه.
فانخفاض الوضع المعيشي لم ينجم عن خمول في الحركة الاقتصادية وحسب، يل عن سياسات ماليّة وضريبيّة تعمّدت توزيع الأعباء الضريبية بين اللبنانيين بطريقة غير عادلة، وسعت جاهدة إلى توفير أسباب الربح السريع لطبقة محدّدة، واعتمدت سياسة جائرة تجاه ذوي الدخل المحدود، ودفعت (وما زالت) الدولة إلى التخلّي عن مسؤوليّاتها في تأمين سلع أساسيّة بأسعار مخفوضة... إلخ.
إنّ الدعوة لرفع يد السياسة عن الاقتصاد هي دعوة مضلّلة. فهي تدعو، من جهة، إلى عدم وضع العصيّ في العجلة الاقتصادية خدمةً لمناكفات سياسيّة. لكنّها توحي، من جهة أخرى، كأنّ الاقتصاد يسير وفقاً لقواعد وقوانين علميّة لا سجال بشأنها، وكأنّ القيّمين على السياسات الاقتصادية لا ينطلقون من أفكار وميول ومواقع محدّدة، إنّما هم زاهدون ينفّذون السياسة المثلى التي حدّدتها لهم علوم حياديّة.
بعكس هذه الدعوة المشبوهة، ينبغي جعل السجال بشأن السياسات الاقتصادية أحد الأسس الرئيسية للانقسام السياسي... قبل أن تقدم حكومة «الوحدة الوطنية» على ارتكاب حماقات عجزت الحكومة «غير الشرعية» عن ارتكابها.