القاهرة | مسيرة طويلة قطعها حلمي التوني (1934) ليهتدي إلى صيغة أسلوبية تلائمه بحيث أصبحت لوحاته تدل عليه. تحد كبير لأي فنان يرتبط بقدرته على تأكيد عالمه والتمرد عليه في آن بحيث يصبح كل عمل جديد رهاناً على المغامرة والاختلاف. في معرضه الجديد «المغنى حياة الروح» الذي تحتضنه حالياً قاعة «بيكاسو» في حي الزمالك في القاهرة، سعى الفنان المصري إلى التعاطي مع تحديات ذاتية وأخرى موضوعية.ولد في محافظة بني سويف في مصر في 30 نيسان (أبريل) عام 1934، وحصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة (تخصّص ديكور مسرحي) عام 1958 ودرس فنون الزخرفة والديكور. تولى العديد من المناصب، وأقام معارض محلية ودولية، وعاش في القاهرة وبيروت. لعب دوراً بارزاً في تطوير تصاميم الكتب وفن «الملصق»، إضافة إلى الرسم الكاريكاتوري، وبزغ كفنان صحافي خلال اشتغاله في مجلة «الهلال» ورسوماته في مجلة «العربي» الكويتية حيث عمل إلى جوار أحمد بهاء الدين.

ينتمي التوني إلى جيل من التشكيليين المصريين ممن تشكل وعيهم مع نجاح ثورة 1952 وتبشيرها بقيم جديدة على رأسها العدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، ومقاومة الهيمنة بمختلف أشكالها. حتى الآن، يبدو عمل التوني مخلصاً لتلك القيم، ساعياً إلى التعبير عنها وفق تصورات جمالية مبتكرة لا تغيب عنها مفاهيم مثل الخصوصية، وترتكز إلى وعي يتعلق برؤية الفنان لما يمكن تسميته بالهوية.
يقدم المعرض الجديد مجموعة من اللوحات المرتبطة كلّها بالأغنية العربية طوال ما يقرب من قرن. موضوع سبق للتوني ارتياده من خلال اشتغاله على صور المغنين بدءاً من معرضه الشهير «انظر وراءك بحب» الذي قدمها قبل أكثر من 15 عاماً في غاليري «خان مغربي» في الزمالك. في ذلك المعرض، قدم بورتريهات لنجوم الطرب من أمثال سيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم. كما اشتغل على تقديم نمط من المحاكاة لكثير من الأيقونات البصرية الراسخة في وجدانه.
لعبة واصل العمل عليها في السنوات الأخيرة حيث تكرر اشتغاله على نفرتيتي، وأم كلثوم، وموديلات محمود سعيد، ولوحاته البارزة منها «ذات العيون العسلية». إنّه رسم على رسم يقارب ما يعنيه نقاد الأدب بتعبير «نص على النص» حيث لعبة تداخل النصوص لكن بصرياً هذه المرة. وكما يشير التوني في الدعاية لمعرضه الجديد «يصيح المستمع إلى أغنية جميلة: الله. كذلك يفعل الناظر إلى منظر جميل سواء كان هذا المنظر امرأة حسناء أو سحابة في السماء، أو لوحة فنية جميلة.
وضعت أعماله في خانة «التعبيرية الغنائية»


فلا شك في أن أكثر أنواع الفنون رواجاً هو فن الغناء، فكلنا نسمع الأغاني ونطرب بها، بل منّا من يسمع ويطرب، فيشارك المغني في غنائه». من هنا، جاءت فكرة المعرض الجديد الذي يجمع بين الأغنية الجميلة والوجه الحسن، فيذكرنا بكنوز ومسرات حياتنا سمعاً ونظراً. يضمّ المعرض 44 لوحة زيتية مستوحاة «من أغانٍ شهيرة أحبّها الناس». يدرك المتابع لأعمال التوني مدى جدارة التعبير الذي اختاره الناقد البارز كمال الجويلي لوصف أعماله التي وضعها في «خانة التعبيرية الغنائية». وصف يلخّص السمات الجمالية في المعرض الجديد حيث تتولى كل لوحة التعبير عن علاقة مع أغنية. في المحصلة، يتحوّل المعرض إلى رحلة لاكتشاف الوجدان السمعي لجيل حلمي التوني حيث شغف بتحويل بطلات لوحاته الى «أيقونات» تحتفظ بكل العلامات البصرية المعبرة عن مفهوم هوياتي بالضرورة ومفردات تشكيلية يعود أغلبها إلى جماليات الفن الشعبي المصري (الهدهد، الديك، السمكة، عين حورس)، سواء الفن الفرعوني أو القبطي أو الاسلامي الشعبي بكل حمولاته من شغف بالرموز ذات الدلالة أو التداخل بين الخط والتوريقات النباتية التي تذكر بشغف الفنان القبطي باللعب مع النبات. ولع بلغ حالته التجريدية القصوى مع الفنان المسلم في اشتغاله على رسوم الحج أو وحدات الأرابيسك والمشربيات التي تتجلى في هذا المعرض كعلامة على زمن لا يبدو التوني راغباً في مغادرته. في تعامله مع صورة أم كلثوم، يبدو منحازاً إلى «ثومة» الثلاثينيات والأربعينيات.
ومن السمات ذات الدلالة في المعرض أنّ جميع بطلات لوحاته من النساء الجميلات، لكن في أوضاع مرتبطة ببدايات القرن العشرين، حيث «الفتنة الجمالية» معطلة خلف المشربيات رغم احتشاد الاجساد بجلابيات تنطوي على جمالية لونية فائقة الخصوبة. وفي اللوحات التي تعالج أغنيات غادرت ذلك الزمن، ثمة التصاق واضح به باعتباره «زمناً للفن الجميل» يتعاطى معه الفنان كما يتعاطى مع معطيات عمله في الربع قرن الأخير على الأقل كوسيلة لإحياء التراث القديم وكآلية دفاعية لمواجهة التحديات الراهنة كما في لوحة «زهرة المدائن» التي تستعيد غنوة فيروز الشهيرة. أمر يجعل اللوحات في أغلبها أداةً لتثبيت الحنين من جانب، كما في التعاطي مع أغنيات شادية، وفايزة أحمد، وأم كلثوم، ومن جانب آخر «مرثيات» تغلب عليها الحالة الغنائية والألوان الدالة على هذا المزاج ورؤية تذهب باتجاه الماضي.

* «المغنى حياة الروح»: حتى 17 آذار (مارس) ـــ «غاليري بيكاسو»، الزمالك، القاهرة ـ للاستعلام: 00227367544