«الرواية العربية بين الواقع والتخييل» (الفارابي)، عنوان كتاب جديد للباحثة اللبنانيّة، يرصد «التخييل الذاتي» في العمل الإبداعي، من خلال تجارب إلياس خوري ورضوى عاشور وعلي بدر... وأحلام مستغانمي وعلوية صبح وأحمد علي الزين
نوال العلي
هل يجوز لقارئ أن يتخيّل العمل المقبل لكاتب بعد أن يفرغ من عمله الحالي؟ ربما يمكن ذلك في أعمال تتعلق بالنقد الأدبي، إذ يحيل هذا بدوره إلى تساؤلات مركّبة، تفضي الواحدة منها إلى أخرى. يحدث هذا مع القارئ، ومع الكاتب قبلاً. إذ إنّ الباحثة والناقدة رفيف رضا صيداوي، استمدّت فكرة كتابها «الرواية العربية بين الواقع والتخييل» (دار الفارابي)، من الصعوبة التي واجهتها، مشروعها السابق «النظرة الروائية إلى الحرب اللبنانية» (2003)، في كيفية معالجة المنظور القيمي للحرب وواقعها في الإنتاج الروائي... مع المحافظة، في الوقت نفسه، على خصوصيّة الأدب كعمل متخيّل.
ربما لهذا السبب استعادت الباحثة، هنا، بعض الأعمال التي تطرقت إليها سابقاً، كروايات إلياس خوري وأحمد علي الزين، فلم تضف جديداً في قراءتها النقدية لتلك الأعمال، وإن تناولتها من منظور آخر. لكن قراءة متصلة لكتابي صيداوي الأخيرين، تترك للقارئ أن يفهم بشكل أوضح ما توصلت إليه الباحثة في مؤلفها الجديد من إضاءات على تلك التجارب المختلفة.
إلا أنّ كتاب صيداوي الذي يخوض في الرواية التاريخية ثم التخييل الذاتي، يدفع إلى التفكير بأنّ ناقدة تحمل رؤيةً جماليةً وتحليلية في الوقت عينه، وهي على تماس جليّ مع الرواية في العالم العربي بشكل عام، لا بد من أن تتطرق لاحقاً إلى ضرورة توسيع أفق الجنس الأدبي، وإلى الكتابات الجديدة التي انسجمت مع هذا الأسلوب أيضاً. إنّ هذا النوع من الكتابة الذي يدمج السيرة مع الخيال، لا يمثّل عقبة أو مأزقاً للمبدع، بل، على العكس، يفتح أمامه أفقاً جديداً. لكنّه مشكلة بالنسبة إلى الناقد... فلا هو يُحسب سيرة ذاتية، ولا هو مجرد رواية: فيه من السيرة ما هو معلن وحاضر، أو ما يسمّى بـ«التخييل الذاتي» في العمل الإبداعي... وفيه من الخيال ما هو أكثر.
في «الرواية العربية بين الواقع والتخييل»، تطرّقت صيداوي إلى أعمال سردية من هذا النوع، حيث يحضر الروائي بصفته الإبداعية والشخصية، بمعنى أنّه جزء من العمل يتقاطع ويختلف مع الشخصيات، ويروي غالباً قصة كتابة الرواية نفسها.
وكانت صيداوي حريصةً في القسم الثاني من العمل على انتقاء مجموعة من الكتّاب العرب، بحيث تثبت أنّها تقدم دراسة عن الرواية العربية عموماً، الأمر الذي لم يكن حاضراً في القسم الأول من عملها.
من لبنان، قدّمت صيداوي قراءة في أعمال إلياس خوري وعلوية صبح وأحمد علي الزين، ومن الكويت حضرت رواية «سمر كلمات» لطالب الرفاعي، واختارت دراسة قصة «أسرار ساعة الرمل» القصيرة لإلياس فركوح من الأردن، وثلاثية أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير) من الجزائر... ومن العراق «زجاج الوقت» لهدية حسين و«مصابيح أورشليم» لعلي بدر. بحثت صاحبة «الكاتبة وخطاب الذات» في جدلية العلاقة بين التخييلي والواقعي، وسؤال الرواية عن أسبقية أحد العنصرين على الآخر، والحلول العملية التي يقدمها النص التخييلي، ونسبية الحقائق، والتخييل داخل التخييل، والكتابة كفعل استمرار في الزمن، والتخييل المنتج لحقيقته. وربما كان هذا الجزء هو الأكثر تماسكاً من الكتاب.
استهلت صيداوي كتابها باستعراض النظريات المختلفة في النقد، ثم انتقلت إلى سوسيولوجيا الأدب التي ساعدت على تغيير مفهوم «الفهم»، ثم عادت للحديث عن نظريات التلقي. وفي صفحات أفردتها للحديث عن «النقد في العالم العربي»، لم تأت الباحثة على ذكر ناقد أو روائي عربي واحد، فلو أنها كتبت للصفحات عنوان «النقد في لبنان وفرنسا»، لكان أكثر دقة، إذ إنها أغفلت المرور على الحركة النقدية وأسمائها المكرّسة والمهمّة في مصر وسوريا والعراق، والمغرب العربي أيضاً.
وفي العناوين التالية من الفصل نفسه، تقرأ صيداوي العلاقة بين تحوّلات الرواية وتحوّلات الواقع وتحدّياته، وتخصّص قسماً طويلاً لثلاثية «غرناطة» لرضوى عاشور. ثم تعود للحديث عن «الرواية العربية والمدينة»، الموضوع الذي يمكن إدراجه في سياق تحوّلات الرواية والواقع.
نذكر هذه العناوين ليس على سبيل التعداد، بل بحثاً عن منهج وخط علمي وبحثي واضح، ومعايير تحكم اختيار هذه الأعمال دون غيرها، والتركيز على بعض الروايات أكثر من غيرها. حتى إنها تبدو خيارات عشوائية وغير منضبطة، رغم أنّها باحثة محترفة في أكثر من مجال، فقد أصدرت دراسات عدة منها «جواري» (2001)، عن العنف ضد المرأة.
وإن كانت صيداوي تشير في مقدمتها إلى أنّ الكتاب «تحكمه رؤية واحدة، تتلخّص في تبيان انتماء النص السردي الروائي بما هو نص تخييلي، وانتماء مرجعه الاجتماعي إلى جذر اجتماعي واحد». إلاّ أن الموضوعين ــــ أي الرواية التاريخية والواقع، أو التخيّل الذاتي في الرواية ــــ موضوعا بحث يمكن فصلهما في كتابين. فهما يحتاجان إلى الكثير من التعميق والبحث والتقصي، وخصوصاً أنّ الباحثة تحاول الإحاطة بهما في الرواية العربية لا اللبنانية فقط. كما يؤخذ على المؤلفة أنّها لم تخلص، في أي من قسمي البحث، بعدما خاضت في تحليل الكثير من الروايات، إلى نتائج عامة يمكنها أن تلخص السمات العامة لكل من القضيتين.
صحيح أنّ الكاتب حر في اختيار الموضوع والشكل والصيغة، لكن متلقّي هذا النوع من الكتب يحتاج إلى البقاء في حالة تواصل مع الكتاب، وفهم أسباب قيادة الكتابة إلى هذا الاتجاه أو ذاك، لا سيما أنّها ليست نصّاً إبداعياً بل دراسة نقدية. لكنّ هذا لا ينفي المتعة في قراءة عمل صيداوي، إذ يمتلئ بالكثير من الجدال والتفاصيل التي تجعل المرء راغباً في الاستمرار بالتجول والتفكير فيه.