Omaggio alla Donna في مملكة الحواسبيار أبي صعب

ما إن تدلف إلى غاليري «عايدة شرفان»، في وسط بيروت، حتى تجتاحك الألوان. تبهرك، تستحوذ على حواسك. ألوان حادة، فاقعة، فجّة، حارة... احتفاليّة في كلّ الأحوال، وصاخبة كما في حلبة مصارعة ثيران. الأزرق والكحلي والأخضر والبنفسجي والزهري، الرمادي والقرميدي والبرتقالي، البني الفاتح والبني الغامق، والأصفر بتدرجاته. والأحمر الصارخ، كيف ننسى الأحمر؟ ألوان مفبركة بعناية، تسكر الحواس وتشلّها، ترشح بالحنين إلى مخيّلة غامضة وأزمنة وهميّة، أو لعلّها تسرّبت من ثقوب ذاكرة قديمة، وسالت على مساحة اللوحة لتغمر المشهد.
مشهد حميم، لكنّه ليس عفوياً، لمرأة في حالات أليفة ووضعيّات مختلفة وأماكن متقاربة: الداخل المنزلي الحميم، أو شاطئ البحر أو المقهى أيضاً. تتكرّر المرأة وتتعدّد، تنتشر في فضاء المعرض. دائماً وحدها في اللوحة، وحيدة، إذا استثنينا رفقة الحصان في إحدى اللوحات المدهشة. جذابة وكسولة ومغرية و“سكسي” ومكتنزة. تغيّر أكسسواراتها وأدواتها وملابسها. تتبدّل من حولها عناصر الديكور، تتراوح الخلفيّة بين النافذة، وخط الأفق البحري المؤسلب، وجدار الموتارد المجرّد. وهي هنا، تكشف أمامنا لحظاتها الحميمة، ويوميّاتها اللامبالية، المستريحة، الخاملة، الشهيّة. تتركنا نتفرّج عليها مستسلمة لكسلها البورجوازي المغري، من خلال عيني حسين ماضي، حيث تسكن في نعيم متوسّطي من الضوء المنعش أو الرؤى المخدّرة... والنزوات الشرقيّة العابرة.
لقد أحكم حسين ماضي (1938) قبضته عليك من اللحظة الأولى، أوقعك في الأسر، ولم يعد أمامك سوى أن تهيم على وجهك في هذا العالم العابق بالأنوثة. Omaggio alla Donna عنوان معرضه الحالي (حتّى 13 حزيران/ يونيو)، فيه شيء من الحنين إلى سنواته الإيطاليّة ربّما. تحيّة إلى المرأة، إذاً. ما همّ أي امرأة هي؟ عالم لذيذ ومطمئن يغلّفها، يمرّ فيه الزمن ببطء وهدوء: إنّه وقت القيلولة، وقت الإجازة بامتياز. استداراتها تختصر هويّتها، وزينتها تعزّز تلك الأنوثة الفائضة. المعلّم اللبناني العائد من التجريد، يستسلم هنا لهوس التفاصيل، يمضي في الواقعيّة التصويريّة التي لا تترك شيئاً للمصادفات، فإذا بالواقع يفلت منك تماماً لفرط الإصرار على الإحاطة به، يتركك تنزلق، بأشكال أخرى، إلى الحالة المجرّدة...
انتبه إلى طلاء الأظافر هنا، وأحمر الشفاه هناك. إلى نقشات الأقمشة والأرائك وموتيفات الجدران وبلاط الأرضيّة وتخطيط الجوارب المزيّحة. إلى طرف الكرسي على الشاطئ، أو تلك السفينة الهائمة في البعيد... إلى كل الكنبات التي تحتضن استلقاء المرأة الأبدي، أو التي تجلس إليها كما في عهود مضت، حولها عناصر من الطبيعة الصامتة التي تشهد على نمط حياة معيّن: الفاكهة والزهور، إبريق القهوة والفنجان الكبير... آلة العود على حدة في أحد المشاهد. الصحف بين يديها أو عند أقدامها. أوبرا فيردي «لاترافياتا» في كتاب بجانبها على الشاطئ، أو أغنية كارلو بوتي Amore Amaro (الحب المرّ)، على غلاف كتاب صارت عنواناً لإحدى اللوحات.
لوحات أكريليك على قماش بأحجام كبيرة وأسعار تتراوح بين 10 آلاف و30 ألف دولار: «عازفة العود»، «المرأة ذات البيكيني الأزرق»، «البيكيني الأصفر»، «الحبّ المرّ»، «القيلولة»، «الجورب المزيّح»، «الجريدة»، «الحصان الأزرق»، «القميص الأصفر» «حقيبة اليد»، «امرأة واقفة»، «لاترافياتا»، «الفستان الأحمر»... إضافة إلى رسوم ومنحوتات معدنيّة أليفة من عالم حسين ماضي... وربّما وقف الزائر ملياً أمام إحدى تلك المنحوتات وهي بعنوان «حاملة الجرّة»، ليقيس المسافة الشاسعة بين هذه الإحالة الفولكلوريّة الريفيّة، وأجواء اللوحات المدينيّة بامتياز، والمرفّهة إلى أبعد حدود.
كأننا بحسين ماضي يستسلم لنزعته الـ«فيتيشيّة» (التعلّق بالأشياء fetichism)، يبذل جهداً مرَضيّاً في الإحاطة بأكسسوارات الأنوثة. من البيكيني إلى حقيبة اليد، مروراً بالفستان والتنورة والجوارب “السكسي”، وربطة الشعر والسكربينة ذات الكعب العالي... حتى العناصر المعماريّة والديكور. أليس الشبّاك الذي يحتل الخلفيّة، مثلاً، عنصراً أنثوياً بامتياز على مرّ التاريخ، ليس فقط في الثقافة العربيّة والشرقيّة؟ لكنّه يولي العناية الأكبر لجسد المرأة الذي يكاد يقولب الفضاء بكامله على أساسه. لوحته قائمة غالباً على الانحناءات والتماوجات واكتنازات الأرداف والأفخاذ والنهود، على الاستدارات والأقواس والخطوط المتكوّرة. الاستدارة الأنثويّة تكاد تختزل عالمه، القائم على تكوينات هندسيّة دقيقة، ولو مخفيّة بعناية ومذوّبة داخل المشهد.
قد تكون هناك سنوات ضوئيّة، على مستوى الأساليب والعناصر والمدارس الفنيّة، بين نساء حسين ماضي ونساء Balthus، لكننا نعيش أحياناً الحالة التلصصية والشبقة نفسها. المشهد هنا أقل عفويّة طبعاً، فهو مشغول ليبدو اصطناعياً لجهة الإسراف في التنميق والتزيين والزخرفة. الديكور تزييني لا يخجل من وظيفته، وترتيب الفضاء هندسي بامتياز. والتعاطي مع الخطوط والأشكال والألوان والضوء، بأسلوب النحّات، يجعل الأجساد تفلت من مسطّحاتها لتتمادى في البعد الثالث وتستدعي لدى المتلقي رغبة عارمة في اللمس. ولا بدّ من التوقّف عند موقع الحركة والوضعيّة التي تحدد خصوصيّة كل جسد، وحضوره المتميّز في الفضاء.
وفي هذا العالم الأنثوي المغلق، هناك إطلالة وحيدة للرجولة، متجسّدة في لوحة «الحصان الأزرق». لا بد من أن تقف مطولاً أمام ذاك الكائن الجميل والغريب. حصان كحليّ اللون على خلفيّة صفراء، تمتطيه فارسة يتطاير شعرها في الريح، كأنها من محاربات الـ Amazones. امرأة مهيمنة dominatrix وسط النساء الخانعات، وقد تحكّمت تماماً بـ«ذكَرها»، فبدا في وضعيّة الخضوع والركوع والانحناء (أم إنه في حالة تمرّد؟). المرأة ذات الجزمة البرتقاليّة، وسروال الخيّالة الرمادي الضيّق الذي يبرز الفخذين، والقميص المفتوح على الصدر، تبدو مسيطرة على توازنها ــــ وعلى الوضع حتماً ــــ كأنها في حركة أنيقة تتشارك فيها مع معظم شخصيات اللوحات الأخرى. هناك أناقة كوريغرافيّة في تكوين وضعيات الجسد إجمالاً، في لوحات ماضي الجديدة (2007 ــــ 2008)، تماماً مثلما هناك عناية سينوغرافيّة خاصة في تأطير المشهد وإضاءته وتأثيثه...
لا شكّ في أن حسين ماضي المسرف في إتقانه وتنميقاته وموتيفاته وتفاصيله، يبني ديكوره ليبدو مفبركاً ومصطنعاً، تماماً كما كان «مواطنه» فدريكو فلليني يعيد تركيب البحر وأمواجه في الاستوديو. لسنا أمام لوحة طبيعيّة وعفويّة، بل «لوحة استوديو» إذا جاز التعبير، تتيح لصاحبها إعادة تركيب العالم على هواه، بطريقة حسيّة، وحسب قواعد منظور تخصّه وحده. لا علاقة لتلك اللوحة بالواقع الفوتوغرافي التصويري. الفاكهة هنا لا تؤكل، والزهور لا تذبل، والقهوة لا تشرب، وحتى الإضاءة إضاءة استوديو. إنّه فضاء مجازيّ للمسرحة والزخرفة واللهو: هكذا تعكس مرآة الفنّ سراب الرغبات الهاربة.

«تحيّة إلى المرأة»: حتى 13 حزيران/ يونيو ــ «غاليري عايدة شرفان»، قرب ساحة النجمة ـــ وسط بيروت:
01،983111