دمشق تحتفل بـ«مهيار» (ها)... «شاعر القرن المقبل»خليل صويلح

أما زال هناك متسع للكتابة عن أدونيس؟ ماذا يمكن أن نضيف في فحص تجربة هذا الشاعر الإشكالي الذي بات في سلوك بعضهم من المكرّسات والمحظورات النقديّة؟ لعلها خطوة ضرورية، مطلوبة أكثر من أي وقت مضى، لاستعادة خصوصية تلك التجربة الفريدة، سواء من موقع سجالي أو لجهة التقديس النقدي. إذ إنّ الشاعر المجازف الذي اقتحم اللغة بأقصى طاقة الكلمات وخلخل ثباتها، لم يتوقف عن إثارة المعارك بوصفه رائد الحداثة الشعرية العربية ومطلق شرارتها الأولى. لكن ألمْ تتحوّل حداثة أدونيس نفسها إلى أيقونة، بصرف النظر عن منجز الآخرين من السلالات الشعرية المتعاقبة؟ ولماذا نستعيد اليوم «أغاني مهيار الدمشقي» مثلاً، بشغف ومتعة، ولا نقف ملياً أمام قصائده الأخيرة بالانبهار عينه؟ هل لأنّ قصيدة أدونيس أغلقت دائرتها حقاً، كما يرى بعضهم؟ وهل أدرك صاحب «مفرد بصيغة الجمع» ــــ قبل سواه ــــ أنّ الحداثة التي بشّر بها في أواخر خمسينيات القرن المنصرم مع جماعة مجلّة «شعر»، كانت مجرد موجة خارج سياقها المكاني ومقترحها الإبداعي؟.
ينفي عابد إسماعيل في كتابه «أدونيس عرّاف القصيدة العربية» (منشورات دمشق عاصمة الثقافة العربية)، أيّ شبهات نقدية حول هذه التجربة، ويذهب بعيداً في تمجيد منجز أدونيس الشعري من دون فحص مطبّات التجربة ومنعطفاتها. لا بل يوغل في الاحتفاء بكونية أدونيس: «شاعر بحّار، عابر للثقافات. مغامر، ومستكشف، ومجدّد. إنّه عوليس القصيدة العربية الذي لا يتعب من السفر، ولا يتعب من الحلم، لأنّه لا يريد الوصول إلى نهايته، ولا يريد لإيثاكا الشعر أن تقفل أبوابها».
هذه النبرة الاحتفالية ترمي بظلالها على فصول الكتاب بأكمله. وهو باقتفاء أثر دواوينه الأخيرة («أول الجسد آخر البحر»، «تنبأ أيها الأعمى» و«تاريخ يتمزق في جسد امرأة»)، يسعى إلى تأكيد البعد الأسطوري والإيروسي لتجربة أدونيس التي تشتغل على المجاز «في لعبة مرايا متقابلة». وإذا به يصنع من الأبجدية أيقوناته العاطفية التي تنطوي على وجد صوفي، مثلما يلفت إلى «أزمة الرائي الأعمى» الذي يحارب الرؤيا وينفيها، ويتنبأ بالكارثة قبل وقوعها خلال استشرافه غيباً مكفهّراً لا ينذر سوى بالتوحّش والدم... وصولاً إلى اللغة الإنشادية في ديوانه الأخير «تاريخ يتمزق في جسد امرأة» (2007)، وذلك بالكشف عن التجربة الداخلية القائمة على سرد غنائي متعدد الأصوات، في ثيمة قائمة على التمرّد ضد تاريخ كابح وقامع. هكذا يضعه عابد إسماعيل في قائمة الشعراء الكبار من أمثال أوكتافيو باث وآلن غينسبرغ ويانيس ريتسوس، كأنه بذلك يصادر أي رؤية أخرى في فحص مآل التجربة من موقع مغاير.
وتأتي الشهادات المرفقة بأقلام نقّاد وشعراء من مختلف أنحاء العالم، لتعزّز الصورة المشتهاة والحضور الاستثنائي لصاحب «كتاب الهجرة والتحوّلات في أقاليم الليل والنهار»، وذلك بإقصاء كل ما هو مضاد، وخصوصاً إذا علمنا أنّ أدونيس كثيراً ما كان دريئةً لسجالات وجدل ومعارك شرسة، هي ــــ في نهاية المطاف ــــ من صلب إشكالية هذا الشاعر والمفكّر الذي لا يركن إلى ضفاف. وقد بات صعباً لغاية اليوم، عزل نص أدونيس الشعري عن أفكاره النظرية التي تبلغ حدود التناقض، ويرى أدونيس نفسه أنّها ظاهرة صحية ونزعة في التجديد واختبار مسارب أخرى لا تستقر على حال. يقول في حوار معه: «كل تجربة عظيمة لا يمكن أن تكون إلا تناقضية ومأساوية، فالتناقض علامة الوحدة، وهي اللحظة التي يتعانق فيها الموت والحياة حينما يعيش الإنسان أعلى حالات النشوة».
في هذا السياق ربما، نجد تبريراً لما يقوله الشاعر الكندي دنيس لي: «لدى قراءة أدونيس، بدت لي بعض القصائد تجريدية، إلا أنّ معظمها جعل دمي مستنفراً. وفي كل مرّة، ظننت أنني أقبض عليه كسريالي أو تصويري، لكنّه كان دائماً يفلت إلى مكان آخر». ويذهب إيف بونفوا أبعد من ذلك حين يقول: «إنه من أولئك الشعراء الذين سيحتاجهم القرن المقبل، سيساعدون على الإدراك بأنه عن طريق الشعر وشن الحرب على الكلمات الخادعة، يمكن للكائنات وللغات أن تتقاسم ثمار الروح».
يفتقر الكتاب إلى أسئلة نقديّة من شأنها أن تضيء تجربة الشاعر الغنيّة والمتنوّعة، من نوع: إذا كان أدونيس هو مَن «أضرم النار في المسلّمات مثل وشم على جسد القصيدة العربية» بتعبير محمد بنيس، فلماذا ظلّ اسمه في دائرة النخبة، ولم يخترق الحشود، مقارنةً بشعراء كبار آخرين؟ لعله الغموض الذي واكب تجربته والإصغاء إلى الحفيف الأوّليّ الذي ينبع من أسطورة القيامة والمجازفة في «اللامسمّى»، في المسافة الافتراضية بين النص والشخص.
ها هو شاعر من جيل آخر هو سيف الرحبي يؤكد على أنّ أدونيس «خارطة المتناقضات والمعنى في سرابه وهروبه الدائم في قلب المتاهة». بينما ترى خالدة سعيد أنّه «الحلم العنيد إلى ضفاف الحوار الكوني». لكن كيف ينظر أدونيس نفسه إلى تجربته، وهل ناوشها النقد في العمق، هل أنصفها حقاً؟
يقول صاحب «فهرس لأعمال الريح»: «أعتقد أنني لم أُقرأ حتى الآن القراءة اللازمة خارج السياق الثقافي السائد. في حين أنني يجب أن أُقرأ عكسياً». ويوضح فكرته: «كل ما يمكن وضعه في خانة، يمكن وصفه بالشيء الذي انتهى. الشعر مثل الهواء، لا نستطيع أن نقبض عليه. اليوم يجب أن نسأل أين الشعر، وما الشعر؟ علينا أن نحاول الخلاص من كابوس التاريخ، وزحزحته، أو الإشارة إلى الآخرين كيف يمكن أن يُزحزح هذا الكابوس، والنظر إلى ذلك التاريخ الآخر، الخفي، المستتر، الخلّاق».


الإيديولوجي الضيّق أم الكوني الرحب؟ولد أدونيس في قرية قصابين على الساحل السوري (1930)، في بيت طيني كان عليه أن يصمد في وجه المطر والريح والزمن. درس القرآن على يد والده في سن مبكرة، وعلى يد شيخ القرية، وكان يذهب كل يوم حافي القدمين إلى ما يسمى الكُتاب، ليتعلم القراءة والكتابة. كما أنه انغمس في قراءة الشعر العربي القديم، وشغف بالمتنبي والمعري وأبي تمام وأبي نواس.
في سجن المزة (1955)، دفع ضريبة انتمائه إلى الحزب القومي السوري، قبل أن يهجره عام 1960، ويصف دمشق في تلك الحقبة بأنّها كئيبة ومقفرة وقاحلة. لكن حادثة مشهورة كانت قد حدّدت مصيره قبل ذلك، حين وقف في ربيع 1944، في ساحة السراي في مدينة جبلة، مرتدياً زياً فلاحياً بسيطاً، تحت المطر المنهمر، لكي يلقي قصيدة وطنية، أمام رئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي.
تلك القصيدة كانت بمثابة بطاقة عبور وسبباً مباشراً بإرساله إلى المدرسة العلمانية الفرنسية (اللاييك)، في طرطوس. هكذا تعرّف عن كثب إلى نسق شعري آخر. وفي بيروت 1956، بدأ فصلاً آخر من حياته، لينفتح تالياً على تجارب شعرية عالمية، وإذا به «يتجاوز الثقافات ويعبر اللغات».