الطرب الأصيل يعانق الأرجنتين في مسرح «بابل»



فنانة لبنانية على حدة، منحت صوتها للتراث الأصيل الذي ترنو إلى سبل إحيائه وتجديده. موعدنا معها الليلة وغداً في المحطّة الموسيقية الثالثة من مهرجان «فوروورد»، حيث تطلق ألبومها الجديد المشغول تحت راية التانغو العربي

بشير صفير

لا تحتاج سميّة بعلبكي إلى تعريف، إذ إنّها تتمتع بشهرة محلية وعربية كبيرة، رغم إطلالاتها القليلة في الإعلام، وإنتاجها الفني المحدود على صعيد الأغنيات المسجّلة الصادرة في ألبوم وحيد. يعرفها الجمهور قبل صدور «لا أريد اعتذاراً» أواسط تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأت ترسم خطاً فنياً يحترم أذن الجمهور المتذوِّق للأصالة من جهة، ونجحت من خلاله في توظيف صائب ومهني لصوتها القدير والمهذّب أكاديمياً من جهة أخرى. وهناك جمهور جديد تعرّف إليها لدى ولادة باكورتها، وتابعها في حفلاتها الكثيرة، وكانت آخرها أمسية قدّمتها ضمن سلسلة «أماسي رمضانية» في مسرح «بابل».
في المقابل، ثمة علاقة خاصة بين الجمهور وسميّة بعلبكي: لاحِظوا كيف ننساها بسرعة كلما غابت، وكيف نسترجع علاقتنا معها ــــ بسرعة أيضاً ــــ عند كل إطلالة. ننساها لأن لا شيء يذكّرنا بها في غيابها، إلا إذا أردنا مقارنة ما نراه على شاشاتنا بنقيضه. وعندما تعود، نستعيد صوتها، لأنّه خاص بنبرته الحزينة. الجميع يعرف أسطوانة «لا أريد اعتذاراً»، ويتساءل: لماذا بقيت يتيمة على رغم مرور كل هذه السنين التي كنّا نرى فيها سميّة تجول العالم، وتقدم الحفلات، وتغني فريد الأطرش وفيلمون وهبي ومحمد عبد الوهاب وزكي ناصيف وسيّد درويش والأخوين رحباني وأغانيها الخاصة، متأكدين بالتالي من أنّ عملها لم يكن تجربة عابرة.
لكنّ الجواب عن هذا السؤال سهلٌ إذا لجأنا إلى المراقبة السياسية/ الاجتماعية لما يجري على الساحة خلال العقدين الأخيرين. بمعنى أوضح، اتفقت شركات الإنتاج ضمنياً على أن لا مكان للأغنية العاطفية الصادقة وغير الرخيصة في جدول اهتماماتها. ولا مكان أيضاً للأغنية الملتزمة والوطنية والكلام عن المعاناة من قلب المعاناة، أي من الجنوب. فماذا لو اجتمعت هاتان الميزتان في فنّان واحد؟ تعي سميّة جيداً هذه الحقيقة، وقد صرّحت مراراً أنّها لا تستغرب أبداً عدم اهتمام شركات الإنتاج (التي باتت شركة واحدة اليوم أصلاً) بمشروعها الفني، ولو أنها تقولها بمرارة المظلوم الحريص على الأغنية الجيدة والجدية.
سبحت سميّة عكس التيار، فكان أن راوحت مكانها. لكنّ قناعتها بخياراتها وتمسّكها بعدم «التنازل» يؤكدان وجود قناعة مماثلة للمشروع الجديد الذي تقدّمه اليوم: التانغو العربي. وهذه التجربة تأتي نتيجة لقاء بين «إلمامي بربيرتوار الأغنية العربية الأصيلة وخبرة مؤسس Forward Productions الفنان غازي عبد الباقي بالتيارات الموسيقية الغربية عموماً، ومن بينها التانغو الأرجنتيني».... هكذا تلخّص لنا سميّة الموضوع. وتضيف الفنانة الجنوبية: «إنه مشروع جديد بروحيّته، يمثّل مرحلة جديدة في مسيرتي الفنية، وهو نظرة جديدة إلى أعمال قديمة وضعْتُ مع غازي أفكارها الموسيقية منذ فترة، وأتت اليوم ترجمتها العملية بعد نضوجها. من جهة ثانية، في ما يخصّ التوليف الموسيقي، أرى أنّ التانغو يشبه شخصيتي بثورته وحزنه ورومانسيته وما يحمل من شجون». إذاً ها هي موسيقى التانغو تحطّ رحالها رسمياً في لبنان، بعدما انتقلت من «بيوت الهوى» الأرجنتينية (بعد ولادة من أصول إسبانية، أفريقية، كوبية) إلى الصالونات البورجوازية في أوروبا. لكنّ التانغو ليس جديداً في الوطن العربي، إذ إنّ مجدّدي الأغنية كعبد الوهاب ومحمد فوزي وغيرهما، استخدموا سابقاً إيقاعه الثنائي ونسيجه الموسيقي المميّز... لكنّ تجربة سميّة تحمل خصائص محدّدة، فقد أعادت توليف أغنيات من تراث الأغنية العربية القصيرة على نمط التانغو. أغنية واحدة فقط من أغنياتها، هي «أطلب عينَيَّ» (ألحان محمود الشريف)، وُضعت بالأصل على أساس التانغو.
الألبوم الذي يُطلق مساء اليوم، حوى أغنيات مصرية جرى توليفها الموسيقي لتوحيد هوية المادة الموسيقية لناحية مناخ التانغو إيقاعاً وتوزيعاً. والأغنيات هي: «شغلوني» و«أهواك» و«لأ مش أنا اللي ابكي» و«أحبك وانت فاكرني» و«عشانك يا قمر» (عبد الوهاب)، «دخلت مرّة في جنينة» (مدحت عاصم)، «بحلم معاك» (هاني شنودا). ومن لبنان وقع الاختيار على «يا عاشقة الورد» (زكي ناصيف). أدّت سميّة هذه الألحان بأمانة، وحمّلتها من صوتها ما يناسب توزيعها الجديد الذي تولاه الموسيقيّون غازي عبد الباقي وزياد سحاب وعبود السعدي. وهنا يجب التوقف عند حسن اختيار الآلات الموسيقية المطلوبة للحفاظ على الهوية الشرقية بحدها الأدنى (عود شربل روحانا وزياد سحاب، رقّ سلمان بعلبكي وإيلي خوري)، والآلات الغربية الأساسية المستعملة عموماً في موسيقى التانغو (بيانو أرتور ساتيان، أكورديون طوني ديب، كمان أنطوان خليفة)...
Arabtango عمل مشغول بعناية، متجانس وأمين للتانغو شكلاً ومضموناً. ولو أنّ العلامة الأعلى تذهب إلى «شغلوني» الأغنى والأكثر تنوعاً، وخصوصاً لجهة توزيع الوتريات (مع تحفظ عابر)، وفواصل البيانو الجميلة التي تفضح عدم قدرة انسلاخ أرتور ساتيان عن حبّه الأول... الجاز.

الثامنة من مساء اليوم والغد: مسرح بابل (الحمرا) ــــ 01،744034


فلامنكو وسالسا وجيبسي وتانغو

بالتعاون مع الموسيقي غازي عبد الباقي الذي أشرف فنياً على المشروع، أحضرت سُميّة بعلبكي موسيقى التانغو الأرجنتينية المصدر إلى الأغنية العربية الأصيلة (المصرية واللبنانية). لكنّ تجربة سميّة في مزج تراثٍ من موسيقى الشعوب بالأغنية العربية ليست الأولى من نوعها في لبنان. إذ إنّ أنماطاً موسيقية شعبية أخرى سبقت التانغو إلى التداخل مع التراث العربي، وكانت بمعظمها ذات جذور لاتينية. بدايةً، يجب أن نستثني هنا موسيقى الجاز (وفروعها) وموسيقى الروك (وفروعها) والموسيقى الكلاسيكية الغربية التي لا تفي الطابع المتناول هنا أي الشعبي. أولاً، لأنّها باتت عالمية لغناها واتساع رقعة انتشارها وتطورها من مدرسة إلى أخرى. وثانياً لأنّ هذه الأنماط استُعملت في الشرق من خلال أعمال اتخذت في الأصل هذه الأشكال الموسيقية. بمعنى أنه لم يُصَر إلى توليفات بهذا الاتجاه لأغنيات كانت شرقية عند ولادتها (باستثناء حالات متفرّقة). في السياق ينحصر الموضوع ببضع تجارب، تولاها خصوصاً المنتج الموسيقي ميشال إلفتريادس.
أواخر التسعينيات، كانت التجربة الأولى التي جمعت الفولكلور اللبناني بموسيقى الفلامنكو، في لقاء وديع الصافي وعازف الغيتار الغجري الإسباني خوسيه فرنانديز، حيث غنى الثنائي من كلاسيكيات الصافي بمرافقة شرقية ونكهة فلامنكو. نجاح التجربة دفع إلفتريادس إلى تكرارها في مشروع Hanine Y Son Cubano حيث استُعيدت كلاسيكيات مصرية ضمن إطار موسيقى السالسا والمدارس الإيقاعية الكوبية الأخرى، غنتها حنين بمرافقة كوبيين (نتج من المشروع ألبومان).
من الموسيقى اللاتينية، ذهب إلفتريادس إلى أصدق وأجمل إرثٍ موسيقي شعبي في قلب القارة العجوز، وأتى بفرقة نحاسيّات من الغجر اليوغوسلافيين (Gypsy) شاركت المطرب اللبناني الشعبي طوني حنّا في تقديم أغانيه الفولكلورية والخاصة، فأعاد المشروع إحياءها بعدما جرفتها الموجة الفنية التجارية... بعد الفلامنكو والسالسا والجيبسي والتانغو، مَن التالي؟