حسين بن حمزةفي مجموعتها الخامسة «كأنني أدقّ بابي» (الكوكب ـ دار الريّس)، تترك هالة محمد قصائدها بلا عناوين. قصائد قصيرة وخاطفة مثل التي تكتبها هذه الشاعرة والسينمائية السورية لا تحتاج إلى عناوين وممهِّدات. لقد أُريد لهذه القصائد أن تبدأ وتنتهي قبل أن يلتقط القارئ أنفاسه. إنها مكتوبة بضربة أسلوبية واحدة. لا نجد فيها إطناباً ولا ثرثرة زائدة. كأنها مشغولة بصبر صائغي المعادن الثمينة، «لا غرام ناقص ولا غرام زيادة».تنطلق كل قصيدة من فكرة صغيرة لتتحول شعراً. قد تكون الفكرة مشهداً أو حادثاً أو ذكرى... أو مجرد كلمة تقود إلى عبارة، والعبارة إلى مقطع. في الأحوال كلّها، ثمة مخيّلة متيّقظة ترافق ذلك، تحذف أكثر مما تضيف، وتمحو أكثر مما تستطرد. تشتغل صاحبة «ليس للروح ذاكرة» على ما هو يومي وتفصيلي وغير منتبه اليه. ما يُكتب من شعر يومي وتفصيلي بات روتينياً، غير مفاجئ. الشاعرة تدرك هذا. ما نجده من تكثيف وحذر في استخدام الكلمات يفسِّران العناية الفائقة التي تبذلها في أعمالها. إنه شعر يومي. هذا صحيح، لكنّه مكتوب وفق متطلبات وضوابط شخصية غير معلنة تبعده عن الاسترسال والرخاوة والعادية.
إذا كانت الضوابط الشخصية مخبّأة داخل القصائد، فالحضور الشخصي للشاعرة يطفو على سطح أغلب القصائد. الشاعرة هي إما بطلة القصيدة وإما القصيدة مكتوبة من وجهة نظرها. ثمة سيرة متقطعة أو شذرات من سيرة موزّعة على القصائد. ولعل عنوان المجموعة يوحي برغبة مبطنة للشاعرة في زيارة نفسها، وتفقُّد تفاصيل حياتها. هذا اقتراح شعري شائع، ولا يزال محتفظاً بجاذبيته، داخل ما يُكتب حالياً تحت يافطة «شعرية التفاصيل». إذا تبنّينا هذا الاقتراح، سيكون طبيعياً أن تتحرك القصائد بين ثيمات الأسى والحب والخسارة والحنين والوحشة والانتظار... قصائد مكتوبة في الضوء الخافت لمفردات من هذا النوع تستدعي تأمّلاً وتفلسفاً وحواراً مختلفاً مع الذات والحياة والعالم. داخل هذا التصوّر، تباغتنا هالة بصور شعرية مصنوعة من أحاسيس مرعبة، يندر أن تكشف المرأة عنها... مثل تناول موضع تقدم الجسد في السن: «بعيداً تحت أثوابي/ عارياً/ يراكمُ عمره/ يواجهُ عمره/ جسدي».
شعر كهذا يتجنّب المماحكات اللغوية والتهويمات البلاغية التقليدية. هالة تراهن على المعاني المستترة التي تقترحها تجربة العيش وتجربة الكتابة. كأن قصائدها مكتوبة بقوة الكثافة والتأمل وحدهما. ثمة فكرة، أو أكثر، تحت كل قصيدة. تعالوا نختم هذا المقال بصورة مدهشة عن السعادة: «سعادتي.../ تعفنُ في صدري/ كالفاكهة».