بقلم الشاعر سعدي يوسف
يُقالُ إن العربَ لا تبدأُ بساكنٍ، ولا تقفُ على متحرِّكِ.
لكنّ طْوَيريج خرجتْ عن القاعدة...
لم أكن أعرفُ، في سالف الأيام، من فضلٍ لهذه البُلَيدةِ، إلاّ مغنّياً عتيقاً هو عبد الأمير الطويرجاوي، وإلاّ في كونها مَخْمَرةً لأهل النجف، يقصدونها ليعودوا متعتَعين بعرقٍ من نادي الموظفين الذي كان يديره يهوديٌّ من أهلها.
لكنّ الأيام تأتيك بالعجبِ العُجاب:
قبل الاحتلال بثلاث سنين أو نحوِ ذلك، كنتُ ضيفاً ثقيلاً على شخصٍ، في لندن، كنتُ قد عرفتُه في باريس بادئ ذي بدءٍ.
ذاتَ مساءٍ، والرجلُ لم يَعُدْ، بَعدُ، إلى المنزل، رنّ الهاتفُ، فأسرعتُ إلى السمّاعةِ، على غير عادتي. كانت المتحدثة امرأةً يبدو من صوتها أنها متقدمةٌ في السنّ:
آلو...
نعم.
أأنت أيضاً من طويريج ؟
نعم!
اسمُكَ حسين؟
لا!
■ ■ ■

عاد حسين، حوالى العاشرة مساءً، فأخبرتُه الخبر.
قال: نعم. إنها فلانة، زوجة فلان، متعهّد بار الموظفين في طويريج. وهو يهوديّ. طويريج بلدةٌ متسامحة.
السيدة العجوز، اتصلتْ ثانيةً، لكن بحسين الفعليّ هذه المرّة. كانت تدعونا إلى عشاءٍ في منزلها في إحدى ضواحي لندن الغنية، باعتبارنا عضوَينِ في «جمعية طويريج».
استفسرتُ من مُضيفي:
نعم... في لندن جمعيةٌ بهذا الاسم، تعمل على إحياء ماضي طويريج، وعلى تطويرها في المستقبل.
لبّينا الدعوَةَ.
كان متعهد بار النادي حاضراً، بالطبع، مع ضيوفه، أمثالنا.
المائدة عامرةٌ بمآكلَ عراقية، قديمة، لذيذة، ممّا يطبخه اليهود العراقيون.
الحديث كله، كان يدور حول طويريج: بيوتها. أهلها. عادات الناس. المحال. النهر وعلاقته بالبلدة ...إلخ.
■ ■ ■

يجيء الاحتلال، بدباباته، وأكاذيبه، ويأتي بخدمه من رجالٍ ونساءٍ، وشِيبٍ وشُبّانٍ.
يأتي أوّلاً بأعضاء «جمعية طويريج».
من هؤلاء كان حسين، أشهر مزوِّرِ انتخاباتٍ في العالَم.
ومن هؤلاء، نوري المملوكي الذي حظيَ، أخيراً، بلقب «القائد»، من لَدُنِ المرشّح الرئاسيّ لحزبِ مُجرمي الحرب، جون ماكين.
■ ■ ■

وتقفز طويريج إلى الواجهة، كما قفزتْ العوجةُ في أيامها.
أهل طويريج، مثل أهل العوجة، يحيطون بالرئيس القائد. منهم العسكريون المزوّرون في «لواء طويريج»، ومنهم الحمايات الشخصية، والمتعهدون، والمهرّبون، ومنظِّمو فرَق القتلِ، والدبلوماسيون الحفاة، والموظفون الأكثر حظوةً وسرقةً وفساداً.
■ ■ ■

أيامَ كان «أسبوع المدى الثقافي» يقامُ في دمشقَ، كانت «دار المدى» تشحن الضيوفَ بالعشرات، ولا أقول بالمئات، في حافلاتٍ تُبْلِغُهم «القرداحة»، حيث يثوي الرئيسُ السوريّ الراحل حافظ الأسد.
أمّا في أربيل، فالمزارُ مثوى الملّا.
■ ■ ■

هل ستأخذ «دار المدى» ضيوفَها، في صبيحةٍ ملتبسةٍ، إلى:
طويريج؟
■ ■ ■

ويقول أهلُ العراقِ بلهجتهم العجيبة:
خوشْ لَجَنْ (الجيم هنا تُنطَقُ مصريةً)
خوش أبريج (الجيم هنا تُنطَقُ جيماً حجازيةً!)
ونقضي العُمر، بِطويريج...
لندن 12.06.2008