عن الديكتاتوريّة والانحطاط و«النقّاد ــ الكلينكس» ومسائل أخرىالقاهرة ــــ محمد شعير

في أواسط العشرينيات، كتبت أغاتا كريستي رواية بعنوان «مقتل روجر أكرويد؟»... وكالعادة في روايات الكاتبة البوليسيّة الأشهر، تدور الحبكة كلّها حول كشف اللغز واكتشاف القاتل. وبعد سنوات عديدة جاء الناقد إدموند ويلسون ليعلن تعبه من البحث عن اللغز، فوضع لكتابه عنواناً معبّراً: «من يعبأ بمن قتل روجر أكرويد؟». على المنوال نفسه يمكن أن نكتب اليوم: من يعبأ بموت النقد الأدبي في القاهرة؟ لم يكن أكثر المتشائمين يتوقّع أن يكون الفشل مصيراً لـ«مؤتمر النقد الأدبي» الذي أقامه «المجلس الأعلى للثقافة» في القاهرة على مدى ثلاثة أيام، واختُتم نهاية الأسبوع الماضي.
اعتذارات بالجملة من النقّاد المشاركين، وفي طليعتهم السعودي عبد الله الغذامي الذي كان متوقعاً أن تثير ورقته «موت النقد الأدبي» جدلاً كبيراً بين المشاركين. فقط ثمانية مدعوين شاركوا من أصل عشرين ناقداً من خارج مصر وُجّهت إليهم الدعوة، ما دفع المنظّمين إلى دمج جلسات وإلغاء أخرى.
الأسئلة التي انطلقت من المؤتمر بدت لكثيرين قديمةً عفى عليها الزمن، وإن كان بعضهم أثبت أنّ «الأسئلة القديمة صالحة دائماً لإثارة الدهشة» عبر ابتكار إجابات غير تقليدية. أمّا السؤال الأهم الذي انطلقت منه المناقشات حول الإسهام العربي في النظرية النقدية العالمية...فكشف «إحساساً بالهزيمة» يتطلّب التغلّب عليه «البحث عن إسهام» وإن كان في الماضي. وهو ما فعله الناقد محمد حمدي إبراهيم الذى راح يبحث عن إسهامات ابن رشد والفارابي في النظرية النقدية العالمية!
الناقد حامد أبو أحمد رأى أنّ «كل المذاهب الأدبية والنظريات النقدية ذات طابع عالمي، وإن كانت تصطبغ في هذا البلد أو ذاك بصبغة محلية» مضيفاً «أنّنا لا نملك حقّ رفاهية رفض هذه المذاهب والنظريات، لكنّنا نملك أن نطوّعها بحيث لا تكون غريبة بالنسبة إلى القارئ العربي صاحب الذائقة الثقافية المختلفة عن الآخرين. ولا شكّ في أنّ اصطباغ هذه النظريات ذات الطابع العالمي بصبغة هذا البلد أو ذاك أدّى إلى تنوّع شديد في النظرية الواحدة، لكن المنطلقات واحدة والرؤى متقاربة أو شديدة القرب».
خلال إدارته لإحدى الجلسات، رأى صلاح فضل «أنّ النقد الذي يكتب بلغة أجنبية هو نقد عربي إلى حد ما». واستشهد بمثال كل من إدوارد سعيد ومصطفى صفوان وإيهاب حسن. «لا نستطيع أن نسلب صفة العروبة عن الأول، ولا نستطيع أن نقول إن إسهاماته القوية الفعالة في مجالات النظرية النقدية المعاصرة غير عربية. أما النموذج الثاني فهو أحد مؤسسي النقد البنيوي الفرنسي، مصري دعا إلى ترجمة الإبداعات العالمية بالعامية. أما النموذج الثالث فهو أحد أقطاب الفكر النقدي الأميركي، صحيح أنّه يتحفّظ على عروبته ومصريّته، إلا أنّ ما يكتبه يُعدّ مصرياً عربياً إلى حد ما».
الناقد الليبي بشير العتري كان أكثر حدّة عندما أشار إلى تحوّل النص النقدي على أيدي «عدد من النقّاد المغاربة ومريديهم إلى أقرب ما يكون للشعوذة النقدية وسجوع الكهنة بكل ما للشعوذة من مهارة في الاحتيال والخداع، وإظهار الشيء على غير حقيقته وبكل ما في سجوع الكهنة من تكلّف وتزويق للكلام». وأضاف العتري أنّه «حتّى إنّ هذا النقد صار موضة في الصحف والمجلات والرسائل الجامعية ينتسب إليها مَن يعرف شيئاً عن هذه النظريات ومن لا يعرف حتى لا يُتَّهم بقصر الباع في النقد الحداثي. وهكذا بدأت الحداثة مشرقياً وانتهت مغربياً». ورأى العتري أنّ الحل يكمن في «حركة أدبية ونقدية حديثة ليست باكية على أطلال ماضيها، ولا منبهرة بمناهج وافدة إلى درجة التماهي وفقدان الهوية».
في مداخلته، رأى سيد البحراوي أنّ العالمية ليست سوى مجمل الخصوصيات، والخروج من أزمة النقد الأدبي العربي الحديث يتطلب بحثاً عن «طريق ثالث» يقوم على إسهام عربي يعي جيداً الاحتياجات الجمالية للعرب، وقراءة متأنية للنصوص الأدبية العربية، والإفادة من الإنجاز النقدي في كل مكان وزمان. واقترح البحراوي لهذا الإسهام ما سمّاه «محتوى الشكل». إذ يرى أنّ العمل الأدبي شكل ذو محتوى، وأن وظيفة الناقد هي تحليل الشكل للوصول إلى محتوى العمل الجمالي والنفسي الاجتماعي الإنساني.
محمد أبو الفضل بدران قدّم إسهاماً آخر سمّاه النقد البيئي أو النقد الأخضر. ويعني بدران «دراسة العلاقة بين الأدب والبيئة الطبيعية بحيث نلمح الوعي البيئي والخيال البيئي في النص». بدران حلّل بعض النصوص ليثبت أنّ هذا المصطلح ليس غربياً خالصاً بل له جذور عربية، وخاصة أنّ البيئة تشكّل مرتكزاً واضحاً في الأدب العربي. ولخّص أزمة النقد العربي بأنّها جاءت بسبب الاحتفاء «بالنظريات الغربية من دون النظر إلى الثقافة العربية، وهذا من أهم الأسباب التي جعلت الحديث عن النظرية يحتلّ جانباً كبيراً، بينما لا يوجد أي إشارة إلى التطبيق». وخلص بدران إلى أن هذا السبب جعل «لدينا نقّاداً.. وليس لدينا نقد».
كل مناقشات الندوات والخلافات تم ترحيلها إلى الطاولة المستديرة الوحيدة في آخر يوم من المؤتمر، ولذا، جاءت أكثرها سخونة. إذ لم يكد الدكتور جابر عصفور ينتهي من الحديث عن الفرق بين إحياء التراث وإعادة قراءته حتى بدأت المناقشات. عصفور اعتبر أنّ الإحياء يعني إعادة ميت إلى الحياة بأفكاره التي قد لا تكون صالحة للعصر، بينما «القراءة» هي إعادة فرز الأفكار وترتيبها واستخلاص ما كان منها ملائماً للحظتنا الراهنة. وما ينطبق على النقد ينطبق أيضاً على بقية المجالات السياسية والدينية. فاذا بالحوار يتحول إلى حوار آخر عن الديكتاتورية والحريات والانحطاط، والنقاد «الكلينكس» وأزمة التعليم الجامعي وغيرها من القضايا الساخنة. وقد لخّصها الناقد الكبير محمود أمين العالم بجملة واحدة «لا ينبغي أن يكتفي النقد بتقديم قراءات جماليّة خالصة، إنما أيضاً بقراءة الواقع والمجتمع. وللأسف نحن نعيش أشد عصور الانحطاط».


رجاء النقاش الغائب الحاضرالنقاش سيظل اسمه في الواجهة خلال الأيام المقبلة. إذ إنّه مرشح بقوّة للحصول على جائزة «مبارك» التي سيُصَوَّت عليها في 23 من الشهر الحالي. وهي أعلى جائزة في مصر، حيث تبلغ قيمتها 400 ألف جنيه (76 ألف دولار). وقد رشّح مجلس أكاديمية الفنون النقاش للجائزة قبل رحيله مباشرة.
ويرى المراقبون أنّ فرص النقاش للحصول على الجائزة كبيرة، رغم ضراوة المنافسة مع المرشحين الآخرين للجائزة: بهاء طاهر، إدوار الخراط، يوسف الشاروني، سليمان فياض، والناقد الراحل الدكتور مصطفى ناصف (رُشِّح قبل رحيله)، وذلك لأنّ أكاديمية الفنون التي رشَّحت النقاش هي البوابة الأساسية للحصول على الجائزة، فهي تُعدّ لسان حال وزارة الثقافة. كما أنّ المصوّتين على الجائزة من أعضاء المجلس الأعلى للثقافة سيأخذون في اعتبارهم حصول المنافسين الآخرين للنقاش على جوائز كبرى هذا العام: بهاء طاهر (جائزة بوكر)، إدوار الخراط (جائزة القاهرة للإبداع الروائي)، يوسف الشاروني (جائزة «العويس»). كما أنّ هذه هي الفرصة الأخيرة للنقاش للحصول على الجائزة، إذ ينص القانون على عدم ترشيح الراحلين لها.