راجانا حميةثمّة خيط رفيع بين الحياة والموت، يجرفنا في كثيرٍ من الأحيان نحو دفع أثمانٍ باهظة. أمام هذا الخيط الرفيع، قد نختار الأقرب إلى رغباتنا، ونحياه من دون خوفٍ، لأنّنا نحن من قرّرنا عيشه، لكن هل في استطاعة من عاش ضروب الموت عشرين عاماً مرغماً، أن يسترجع الحياة كأنّ شيئاً لم يكن؟
كلّا، لن يكون هذا سهلاً على مَن لم يختبر لذّة الحياة سوى في شرنقة من الألم، منذ الطفولة في منزل عائلةٍ مشتّتة. ولم يكن سهلاً أن تعود جويل جيابزي Joelle Giappesi، إلى حياةٍ ترغب بها بقوّةٍ، بعد عشرين سنة قضتها أسيرة الإدمان على المخدرات ومن ثمّ خمس سنوات أخرى قضتها وراء القضبان بسبب حيازتها تلك المادة.
بعد رحلة خمس سنوات قضتها في سجون بعبدا وبربر الخازن في بيروت وطرابلس، أُطلق سراح جيابزي اللبنانيّة ــــ الفرنسيّة في عام 2006. لكنّ «النزيلة السابقة» في سجون النساء شعرت بأنّه لا مكان لها في المجتمع، فعادت إلى أوراق الشعر التي كتبتها في السجن، مسترجعةً تفاصيل حياةٍ تركتها هناك. هكذا، بدأت كتابة مذكّراتها «الجدران لا تصنع سجناً» Les Murs Ne Font Pas La Prison الصادر حديثاً عن Tamyras. فإذا بها تستعيد قصّة إدمانها في عمر الثالثة والعشرين خلال الحرب الأهلية اللبنانيّة. رحلة بدأتها مع خطيبها المنتحر غسّان، وقصّة اعتقالها التي بدأت ذات يومٍ من عام 2001، وخفايا الحياة في السجون الثلاثة، بلغةٍ مباشرة وصريحة.
في «الجدران لا تصنع سجناً»، صحت جيابزي على جملة حقائق لم تكن في وارد الاعتراف بها قبلاً، حقيقة «أنّ السجن لم يكن السنوات الخمس فقط، فقد سبقته عشرون أخرى». ولم تكن لتصل إلى هذه الحقائق التي أخفاها إدمانها، لولا مرورها بسلسلةٍ مصاعب داخل السجون التي بدأت أولى محطّاتها في بعبدا... ثم سجن بربر الخازن للنساء. هناك، اكتشفت الغرف الثماني التي تحوي السجينات، عدا غرف «الأجنبيات» التي تحوي أكثر من 15 سجينة، واكتشفت معها الفقر والمرض والألم الذي يجمع بين السجينات والحقد أيضاً. غاصت جيابزي أكثر في التفاصيل، فتعرّفت إلى «جرائم» النزيلات وأسمائهنّ وشخصياتهنّ، فتوزّعت الأجزاء الأولى في الرواية بين إدمانها وحياة النزيلات الصديقات منهنّ والعدوّات، فكانت سمر أوّل تلك الأسماء وأكثرها تأثيراً في روايتها وحياتها أيضاً. إذ إنّ سمر كانت سبباً رئيساً في إقلاع جيابزي عن تعاطي المهدّئات في السجن.
بعد الإقلاع المفاجئ، انقلبت حياة جيابزي وبدأت مرحلة جديدة استرجعت خلالها الثقة المفقودة منذ سنوات، وتناست العنصرية التي عوملت بها في بداية سجنها، لكونها «فرنسيّة غريبة» أوّلاً، و«مسيحيّة» أيضاً. وعملت على كسب الثقة، سواء بصنع القهوة للنزيلات، أو تعليمهنّ اللغة وصنع «الإكسسوارات»، أو الترجمة للجمعيّات. فإذا بها تخرج بشهادة عن تجربة السجن الذي حفظته والدقائق الخمس التي كانت تستغلّها لرؤية الشمس وهي تخرج القمامة. بعد ذلك، «رُقّيت» إلى سجن آخر لقضاء الأشهر الباقية من حكمها. هكذا، كان سجن طرابلس بمثابة مرحلة تحضيرية للعودة إلى الحياة الطبيعيّة التي تعيشها جيابزي اليوم. لكن بعد سنتين على خروجها من السجن، ما زالت جيابزي تجد نفسها «هناك»، فهي خرجت من السجن لكنّها تتساءل دوماً «مَن يُخرج السجن منّي»؟