رحلة في ربوع الأدب الفارسي، يدعونا إليها سليم عبد الأمير حمدان. كتابه «قراءات في الرواية الإيرانية» يقوم على الرصد التاريخي، ويعرّف بتجارب أساسيّة، عانى أصحابها غالباً من اضطهاد المؤسسة الرسميّة... منذ أيّام الشاه
سعد هادي
لا يقدِّم سليم عبد الأمير حمدان في كتابه «قراءات في الرواية الإيرانية» (الهيئة العامة السورية للكتاب) تاريخاً للرواية الفارسية في إيران... بل يحاول التعريف بها اعتماداً على نصوصها. لقد راجع العديد من الروايات الإيرانية، مستخرجاً ما يشبه الوصف التاريخي الذي يلحظ تطوّر هذا النوع الأدبي، فيعدّد خصائصه، ويشير إلى إنجازاته. كما يشير إلى تلاحق مراحله الزمنية ضمن ثقافة ظلّت ــــ لأسباب عدة ــــ شبه غامضة وممنوعة على القارئ العربي، أو إلى حدّ ما لا تملك الجاذبية الكافية كي تدفع هذا القارئ للتحرك إليها ومعاينة نتاجها عن قرب... كما كان الأمر بالنسبة إلى أسلافه أمام تلك الثقافة التي ظلت، منذ عصور التاريخ الأولى، على صلة بثقافات الحضارات المتتالية في بلاد الرافدين وبلاد الشام والجزيرة العربية، مثلما كانت بوابتها المزدوجة إلى عوالم الشرق.
وإذا كانت القطيعة قد حدثت نتيجةً للظروف السياسية التي شهدت توتراً دائماً في العصر الحديث بين إيران والعالم العربي، وتوّجتها حرب السنوات الثماني مع العراق، فإن جزءاً من المسؤولية يقع على عاتق المؤسسة الثقافية الرسمية في إيران. هذه المؤسّسة التي تخلط دائماً بين الدين والثقافة، وتقدّم دائماً في خطابها الثقافي الخارجي مزيجاً من الرؤى التاريخية المغرقة في التزمّت والماضويّة، ومن الفتاوى والأدعية والأناشيد والطقوس التي تدفعنا إلى تخيّل خاطئ لهذا الجار العملاق: كأنّه لا يجيد سوى لغة الكهنوت الصارمة، ولا يمكن أن يُرى إلا بعمامة وجبّة ولحية، جميعها مغرق في السواد. ويكفي أن نطّلع على الكتب التي تعرض في واجهة أي مركز ثقافي إيراني، لندرك أيّ ثقافة يراد لها أن تعبّر عن إيران المعاصرة أو أي ثقافة يريد الإيرانيون للقارئ العربي أن يطّلع عليها. لكن الثقافة الإيرانيّة هي في العمق شيء آخر!
يقسّم المؤلف الروائيين الإيرانيين إلى ثلاث خانات: المؤسّسون، ويختار من بينهم صادق هدايت وبزرك علوي. ثم الجيل الثاني، ويختار سبعة منهم لتفرّد تجاربهم، ولأنّه لا يريد لكتابه أن يتوسع إلى آلاف الصفحات. في حين يختار من جيل المحدثين كاتباً واحداً هو أمير حسن جهل تن، مع اعترافه بأنّ كتّاب الجيل الثالث لا يؤمنون أساساً بـ«ترقيم الأجيال» ويرفضون أن يوضعوا في خانة واحدة.
يقول المؤلف عن صادق هدايت، الذي كان أول مَن كتب رواية حديثة في الفارسية، إنّ شهرته لم تأتِ من قيمته الأدبية، بل من طبيعة حياته، وكذلك موته الفاجع. وقد ظلّ هذا الكاتب الذي انتحر في باريس عام 1951 عن 48 عاماً، موضع جدل دائم بين النقاد والكتّاب في إيران. فبينما يمتدحه المحدثون ويبالغون في اقتباس أقواله والإشادة بأعماله، يجد آخرون أنّ هذه الأعمال «تافهة، عديمة القيمة، منحطّة»، فيما يجد المؤلف أنّ هدايت سعى، منذ أول رواية له، إلى أن يقدّمها كاملةً من دون نواقص أو ثلمات تؤخذ عليها فنياً. كما أنّه عمد إلى العودة نحو اللغة الفارسية القديمة، والنأي بها عن المفردات العربية الدخيلة، وكانت كثيرة في أيامه! يشير المؤلّف أيضاً إلى أنّ لغته ببساطتها وقوة جذبها قد ابتعدت عن نثر زمانه المقعر والمسجوع.
أمّا بُزرك علوي الذي عاش أو كاد يعيش القرن العشرين بأكمله ــــ إذ ولد سنة 1903 وتوفي سنة 1997 ــــ فهو نموذج الكاتب الملتزم، وفق مقاييس القرن الماضي: لقد استهوته الأفكار الاشتراكية على رغم انحداره من عائلة دينية. كما اطّلع على الفكر الأوروبي الحديث، وأفاد من الكتابات الماركسية الكلاسيكية، ثم سجن لخمس سنوات. وعند تأسيس حزب «توده» في أوائل الأربعينيات، كان عضواً في لجنته المركزية... ثم هرب من إيران في أوائل الخمسينيات، وعاش منفياً طوال ما بقي من حياته. ولبزرك رواية لم تنشر إلا بعد وفاته بعنوان «الرواية». ولعل عدم نشرها جاء لأنّها تمثّّل لائحة اتهام لحزب «توده»، وخصوصاً في جانب علاقته بالسلطة، وهي علاقة لا ينتقدها بزرك بل يدينها. فيما الرواية، من جانب فني، أشبه بتقرير طويل بفصول متعدّدة، تتلاحق فيه الحوادث الصغيرة والكبيرة من دون ترابط.
من كتّاب الجيل الثاني، يصف المؤلف الكاتب أحمد محمود (1931 ــــ 2002)، بأنّه الأكبر... وقد تعرّض هذا الكاتب باستمرار لمشاكل مع الرقابة. روايته «الجيران» التي أنجزها عام 1966 تعذّر طبعها خلال السنوات التسع التي تلت كتابتها، ثم تعذّر تجديد طبعها أربع سنوات كانت آخر ما بقي من العهد الإمبراطوري، لوصفها بالرواية الشيوعية. كما منع نشرها بعد مرور سنة على الثورة الإيرانية، واستمر المنع قائماً حتى الآن (أي طوال 27 سنة) لأنّها «مبتذلة» أي خليعة ومكشوفة!
أمّا هوشنك كلشيري (1937 ـــــ 2000) الذي بدأ شاعراً، فلم يكن بأفضل حال من سابقه. إذ اعتُقل مرات عدّة في عهد الشاه، وفصل من الخدمة عام 1981 إبّان الثورة الثقافية، وصودرت كتبه، واضطر إلى نشر روايته «كتاب الجن» في السويد عام 1997. وحين نفدت طبعات كتبه كلّها، لم يُسمح بإعادة طبعها في إيران، عدا «الأمير احتجاب» التي نشرت للمرة الأولى سنة 1974 و«المرايا ذات الأبواب» (1992). وقد تمّ، على حد تعبير الكاتب، تركيز غريب على «الأمير احتجاب» حتى تماهت الرواية مع صاحبها، أو أنّ الكاتب اختُزل بها كأنّه لم يكتب غيرها.
وفي السياق عينه، تم عمداً تجاهل رضا برهاني، وهو من الجيل الثاني أيضاً في إيران الحالية، بعدما كانت السلطات السابقة تحسب له حساباً، وتعتقله عند وقوع أي حوادث ذات طابع عالمي، لمنع لقائه بممثلي الثقافة العالمية. ولا يتذكر مؤلف الكتاب أي شيء عنه في صحف ما بعد الثورة، سوى ما قاله عنه أحد الكتاب في اجتماع ما من أنّه مجنون. وقد اختفت كل روايات برهاني من المكتبات، كما لم يتمكّن من تجديد طبع أيّ منها. في حين عاش أبرز كتّاب الجيل الثالث أمير حسن جهل تن (1956) صراعاً مع الرقابة، لإصدار روايته «روضة القاسم» سنة 1983، لكنّها أوقفت وظلت كذلك طوال السنوات التالية، حتى طبعها له بعض أصدقائه خارج إيران. وظلت هي الطبعة الوحيدة التي أبصرت النور، كما طُبعت له مجموعتاه القصصيتان: «صيغة» (1976) و«دخيل على الشباك الفولاذي» (1978) بكتاب واحد في ألمانيا.