أنسي الحاجارتبط اسم عاصي الرحباني بلبنان إلى حدّ لا يستطيع المرء معه أن يتذكّره دون أن يتساءل: لو كان لا يزال حيّاً، ما تُراه كان سيكتب ويلحّن وتغنّي فيروز؟
سؤال افتراضي، لكنّه يُشبه تساؤلات عاصي الرحباني، الذي كان، على الأرجح، سيعثر له على جواب ساطع البداهة وغير مرئي إلا لعينيه هو، على جاري عادته.
يعاني كثير من الناس عذاب الانسلاخ عن الماضي. أطفال ومراهقون وكهول. لأن الماضي هو نعيم اللامسؤوليّة، حيث الحريّة متاحة في حمى البراءة. لقد وجد عاصي الرحباني، ابن الماضي الدائم، الحل لهذه المشكلة بأن أقام في الماضي عَبْر جعلنا كلّنا نقيم معه فيه. أقام فيّاضاً إقامة الماضي في الحاضر والمستقبل في الماضي والزمن كله مجلوّ وراقص ومزهوّ ومنتصر ككلّ ما نعشق حين نعشقه إلى النهاية.
صباح السبت 21 حزيران 1986 غاب عاصي الرحباني. أمس هو اليوم لا في عين الربّ وحده بل في الروزنامة أيضاً. لو كان لا يزال هنا لغَرَف من الذاكرة، ذاكرتنا الجماعيّة التي نكرهها لأنّها أنقى منّا، ما يُصالح وما يقوّي، كما يفعل الآباء العائدون إلى عيالهم ليلة العيد.

الروح الرحبانيّة تراثيّة، محافظة وتقليديّة. جذورها في القرية، وفي قرية هانئة، ليلُها الغائر العجيب مُرْضع سحريّ للمخيّلة الشعرية، وأماسيها عابقة بالوعود. إنه الفولكلور، ولو تطوّر على أيدي الأخوين وصار تأليفاً ذاتيّاً. إنه الفولكلور ومعه، تارة قبله وطوراً بعده، تأثيرات التراتيل والقداديس مارونيّة سريانيّة وبيزنطيّة أرثوذكسيّة. ليس أقوى من الجذور حين تتمكّن من الكائن مثلما تمكّنت الجذور من الأخوين رحباني. يظلّ المرء العادي يبحث طول حياته عن طفولته (أو عمّا ينسيه إيّاها، الفرق هو فقط في نكهة البحث) فكيف إذا كان الباحث شاعراً وملحّناً؟ إنه عندئذٍ لا يهيم باحثاً ولا يعثر بالصدفة عمّا قد يشفي غليله، بل يبني عالماً، يُهَندس بيتاً كونيّاً لا يأوي هو وحده إليه بل يستضيف فيه الجميع.
هذه المؤلفات المتجذّرة في القرية الرضيّة والتي تستند في جوهرها إلى تقاليد الخير، ما الذي ينقذها من الضحالة والرتابة التي اعتدنا أن نجدها في مثل هذه الأعمال؟ ينقذها كون الجذور التي نهل منها الأخوان تضيف إلى جذور الواقع جذور الحلم وظلال الأماني. لقد أعادا خَلْق ما عاشاه وجبلا هذه الإعادة بقلقِ باحثٍ لاهب، عن الجديد وعن الأكثر، يحفزهما ويكلّل جهودهما صوت فيروز المذهل الذي هو جسدٌ تامٌ للحظة الماضي الهاجسة ولحظة الحاضر المختلجة ولحظة المستقبل الحالمة.
يبدو عاصي الرحباني في هذا البنيان الأب المؤسس والراعي الدائم. بقسوة القائد المستبد وحنان المُحاكِم نفسه، ذلك الذي يستبدُّ بالقائد حين يكون شاعراً. أبٌ لا لزياد فحسب، بل لمنصور ولفيروز أيضاً، وأبٌ لجمهوره. وأبٌ لنفسه بقَدْر ما هو طفل لنفسه. وفوق أرواحنا، نحن مدمنيهم، يرفرف ذلك النَّغَم الأليف المُهَدْهِد حتّى في عَصْفه، نغم الراعي الرفيق، نغم الدماغ الكبير والقلب الرقيق، نغم سهرات السبت القرويّة وصباحات الرؤى العذراء، نغم هو الذي ينقص الشعر ليصبح موسيقى وهو الذي ينقص الموسيقى لتصبح شعراً وهو الذي ينقص الاثنين ليعودا صلاة. ما من شاعر لا يشتهي أن يكمل قصيدته بنغمها الغائر في ضبابه، ولعلّه ما من ملحّنٍ لا يشتهي أن يكمل لحنه بتلك الكلمات التي كانت وسوف تظل تراوده في هيولى تكوينه. لقد أُعطيتْ هذه النعمة لعاصي الرحباني. البرق والرعد والمطر. والأرض العطشى وعناقها. والجنى الكثير.

كان الأخوان يُسألان لماذا لا يلحّنان لفيروز إلّا من كتابتهما، فيتلويّان وينحنيان ويبتكران ما تيسّر من الأجوبة المهذّبة. الواقع أنه لم يكن بهما حاجة إلى شعر الآخرين، فالخزّان مليء وملائم. لقد لحّنا لشعراء عديدين، من قبلان مكرزل وعبد الله غانم إلى الأخطل الصغير وسعيد عقل، من إيليا أبو ماضي إلى جبران ونزار قبّاني، من نجيب ليان وأسعد سابا إلى ميشال طراد، ومن أبي نوّاس وأبي بكر بن زهير الأندلسي إلى بولس سلامة ومرسي جميل عزيز... وكان التنويع هو الغاية، وأَن يُكرِّم صوت فيروز مَن يختارانه لفيرزة شعره، وأن يصلا عبر «شعراء الأدب» إلى أكبر عدد ممكن من المتذوّقين.
لكنّ الأخوين يبقيان أفضل مَن كتبا لها. وتبقى هي أفضل مَن استنهضهما إلى تجاوز نفسهما. أحياناً جالستُ عاصي وهو يعمل على لحن لفيروز. كان المشهد أشبه بالصوفيّ. انخطاف في نشوة تَتَرقّب ثمرة نفسها. يمضي الإنسان عمره مفتشاً عن لحنه الضائع، وعاصي الرحباني كان يجد لحنه الضائع كلّما ألّف لفيروز. وظلّ في أثره مع ذلك طامحاً إلى أكثر. ولم يَخُنْه الأكثر. حتّى ملأ الأرض والسماء.

يستطيع الكاتب ساعة يشاء أن يجفّف البحر. كلّ النهايات طوعه. كان في إمكان الحكاية أن تَنخْتم على مأساة فلا يجيء فارس الأحلام. كان في إمكان المؤلف أن يقتل عنتر من زمان. وجان بول سارتر أن ينهي «الغثيان» بالعدم اللانهائي، لكنّه ارتأى اللقاء بالصوت الجميل كمعجزة إنقاذيّة. دوستيوفسكي، المتجهّم الأكبر، لم يجد مفرّاً من القول، فوق دخان الجنون وصراخ الفواجع، إن الجمال سيخلّص العالم. كان بودلير يتنقّل منذ صباه الباكر ومرضُه المميت يسابقه، وظَلَّ يبحث عن حلمه، حلم اليائس، وما هو باليائس ما دام له حلم. قَطَعَ المصعد ساق بول غيراغوسيان هنا، في هذا الشارع بالذات، وربّما في هذا المبنى نفسه، فحمل ساقه وهرع بها إلى المستشفى وهو ينزف ويصيح برفيقه عصام محفوظ: «لا تَخَفْ! لا تَخَفْ!». وخسر ساقه واكتسب من المستشفى فيروساً أضناه، ولم يصوّر نهاية العالم في لوحاته اللاحقة، بل ازدادت هذه إشراقاً. كان الأخوان رحباني يمرّان في أزمات حادة أحياناً، وربّما تركت بعض ظلالها في بعض ما ألّفا، لكنّ طيبة ذلك الأب وتحنانه على طفله المتشوّق إلى نهاية سعيدة، كانت دوماً تتغلّب. «يا جيراني بخاطركن» كانت وداعيّة قبيل انفجار دماغ عاصي الرحباني، غير أن «المحطّة»، أول لقاء معه ومع منصور بعد شفاء أبي زياد، اتّشحت ببعض الأسى اللطيف، وبخاتمة حزينة موحية، لكنّها لم تفلش هول المعاناة ولا أخضعت جمهورها للإحباط. مسؤوليّة النبيل القادر. مسؤوليّة الخلّاق حيال الخليقة. «جهنم؟ إيه جهنّم... بس يمكن ما فيا حدا...». الخلاّق (الفنّان، الشاعر، المهندس، الروائي، الفيلسوف، الأمّ) لا يقسو إلاّ على نفسه. إذا هناك إله خالق للكون، لا يمكن أن يكون قد أوجد الموت ولا أي جحيم. هذه تخريباتُ فشل لا أعمالُ خَلْق، وبشاعتها تحمل لون الحَسَد وعفونة العقم. الخَلْق، بحكم الأبوّة ـــــ الأمومة الحاضنة له، هو المعادلة الكبرى بين العطاء والحماية والإمتاع. لم يكن في وارد الخَلْق نهاية غير الحكاية السعيدة. ولم يكن على الأصحّ في وارده ولا نهاية، بل ابتداءات من حيث توقّفت الابتداءات السابقة، ونهايات تضع البدايات الجديدة، مثلما تحمل اللحظةُ باللحظة وتتوالدان بلا دخول في الموت، اللّهُمَّ إلاّ موت الملل من التجدّد. يفرح الخَلْق بالحزن كما يفرح بالفرح، لكنّه لا يَخْتم السهرة بإقفال الباب. القيامة، سواء قيامة تموز أو المسيح، رمز شعري كيانيّ قبل أن تكون طقساً دينيّاً، وشوق إنساني فرديّ وجَماعيّ قبل أن تكون ثقافة. الخلق الأدبي والفني ليس ديمومة الحياة فحسب، بل ديمومة الرعشة المسحورة في جسد الحياة.

«يبقو يجو قبل الضهر وسكوتْ
ع هالطريق وفَيّ
يعمّرو حَدّ القناية بيوتْ
يلعبو بالميّ
(...) وشو يقعدو ساكتين عَ بكرا
وحجار بإيديه
نازل يزيّح ع كعب شجره
وهيّي عيونا عليه...».
أعرف مَن لا يحتمل سيل الحنين في أوبريت «حكاية الإسوارة». أعرف مَن يكرهها (هي و«الليل والقنديل» والأغنيات الأولى غير المترجمة، مثل «عتاب») لا لبساطتها، بل لأنها توقظ الطفولة وتستدرج إلى البكاء على فردوسها الضائع. شجنٌ ضاغط بغمام الذكريات وتَوقُّفٌ مبهوت تحت صوت القلب.
نفوسنا المريضة الهاربة نحو الصَّخَب تضيق بدفء القناديل.

يُعجَب البعض، في الغناء والموسيقى، بمساحات الصمت، لكنّنا هنا أمام غناء وموسيقى يحملاننا على الإصغاء بجُماع الجوارح ولا يوقعاننا في الصمت تاركيننا لمصيرنا. كان عاصي الرحباني يحب الحكي ويكره الصمت. لأن التعبير في نظره وفي استعماله رسول أمل.

جَعَل عاصي الرحباني الدنيا تُغنّي. تلك كانت هي الحياة. وأعطانا الحياة بصوت فيروز الدائم الأمل. تلك كانت هديّته الكاملة.