خالد صاغيّةمنذ أوائل الثمانينيات، واشتباكات باب التبانة ـــــ بعل محسن مستمرّة. إلا أنّها نوع خاص من الاشتباكات. تهدأ لفترة طويلة، ثمّ تشتعل فجأة. لا أحد يعرف لما هدأت، ولا أحد يعرف لما اشتعلت. وهي تبدو مرتبطة بالأوضاع السياسية العامة، لكن بخيط رفيع لا يكاد يُرى. لكن ما هو مرئيّ جيّداً، وبوضوح كامل، هو أنّ هاتين المنطقتين تحويان الشرائح الأفقر في طرابلس، وربّما الأفقر على امتداد مساحة الوطن كلّها. وما هو مرئيّ أيضاً، وبوضوح كامل، أنّ الدولة تتعامل ـــــ منذ نشوئها ـــــ مع هاتين المنطقتين وكأنّهما ليستا جزءاً من المساحة الجغرافية التي عليها أن تدير شؤونها.
ففيما تعيش منطقة جبل محسن تهميشاً لا مثيل له في لبنان، حتّى كأنّها تبدو كإقطاع منفصل عن بقية المدينة وبقية الوطن، تحوّلت منطقة باب التبانة ذات الاكتظاظ السكاني القابع تحت خط الفقر إلى مرتع للزعامات السياسية الناشئة، والقائمة على تقديم الخدمات. نائب يعمّر جامعاً، وآخر يبني له قاعة، وثالث يفتح مستوصفاً، ورابع يتكفّل ببعض المطالب المالية الصغيرة لحيّ أو شارع في التبانة. وفي المقابل، يرفع الأهالي داخل منازلهم الصغيرة صوراً كبيرة للنائب أو الزعيم المحسن الكريم الذي لم يسعفه كرمه إلا في تقديم فتات الموائد.
هذا واحد من أساليب عديدة ابتكرتها هذه المنطقة منذ الخمسينيات من أجل الحصول على ما يمكّن سكّانها من العيش. لقد جرّبت أساليب «روبن هود»، وجرّبت «الإدارة الذاتية»، وجرّبت التعاطي البراغماتي مع زعماء الأمر الواقع.
ثمّة رواية شهيرة في طرابلس عن زعيم تقليدي قيل له في الستّينيات بضرورة الشروع ببناء مدارس في التبانة، فكان ردّه أنّ أهلها «مش خرجن العلم»، فأجيب: لكن أهلها هم من ينتخبونك يا حضرة الزعيم!
لا يزال هذا الردّ صالحاً إلى اليوم. فلا أحد من مصلحته أن يخرج أهل التبانة من الوضع الذي يعيشون فيه. يريدونهم خزّاناً بشرياً للحملات الانتخابية، ولجولات العنف التي تخدم مصالحهم في العاصمة أو في أحياء طرابلس الثريّة.
فإذا كانت الموالاة تريد أن تثأر لمعركة بيروت، أو أن تحرتق على اتفاق الدوحة، فلمَ لا تفعل ذلك في شارع المعرض مثلاً؟ ولمَ ينبغي لفقراء التبانة أن يحموا عرش قريطم، وخصوصاً أنّ أصحاب ذاك العرش لم يقدّموا لهم إلا المساعدة على إبقاء الفقراء على قيد الحياة، شرط أن يبقوا فقراء، وأن يبقوا ناخبين مطيعين، وأن يبقوا داخل المربّعات المقفلة التي أريد لهم العيش فيها.
وإذا كانت المعارضة ـــــ كما تتّهمها الموالاة ـــــ هي التي تريد أن يبقى الوضع الأمني متوتّراً، فلمَ لا تدع أبناء بكواتها ينزلون إلى ساحات المعارك؟
■ ■ ■
«اليوم، رحلت روزا الحمراء
لقد أخبرت الفقراء حقيقة الحياة
ولذلك، قتلها الأثرياء،
فلترقد روحها بسلام»
هكذا رثى الشاعر الألماني برتولد بريخت المناضلة الماركسيّة روزا لوكسمبورغ التي رفعت الصوت عالياً ضدّ المشاركة في الحرب العالميّة الأولى، والتي رفضت أن يكون الفقراء حطب الحروب التي يخوضها الأثرياء دفاعاً عن مصالحهم. فالحرب التي ينبغي للفقراء أن يخوضوها هي حرب من نوع آخر.
كلامٌ كلّف روزا الحمراء حبل المشنقة. التغاضي عنه يكلّفنا اليوم مقصلة جماعيّة.