الحي اللاتيني يفقد آخر أساطيره... نزيل الغرفة ٥٨
رحل ألبير قصيري عن ٩٤ عاماً، في غرفة الفندق التي اتخذها ملجأً ليأسه الأرستقراطي منذ عقود... وفي حي سان جرمان دي بري الباريسي الذي اصطفاه جمهوريّة فاضلة منذ عام ١٩٤٥. محطّات في مسيرة الكاتب المصري المقل الذي يُعَدُّ اليوم من رموز الأدب الفرنسي...

بيار أبي صعب
«عزيزي
توفي منذ قليل الكاتب المصري ألبير قصيري.
صديقنا سيف الرحبي المقيم حاليّاً في «فندق لويزيانا» في باريس، اتصل بي الآن وأعلمني بالخبر. رأى شرطة في الفندق، سأل صاحبة الفندق، مونيكا، فقالت له: “اليوم وجدنا ألبير ميتاً في فراشه”. الرسالة الإلكترونية سبقت أوّل من أمس وكالات الأنباء. كأن الكاتب العراقي صموئيل شمعون ينعى إلينا صديقاً مشتركاً. أو يخوض في شأن عائليّ خاص، مستعيناً ــــ لمزيد من الصدقيّة والتأكيد على خطورة الحدث وحميميّته في آن ــــ بشهادة حيّة لفرد آخر من تلك العائلة، هو الشاعر العماني سيف الرحبي. صحيح أن هناك روابط خفيّة ــــ يمكن وصفها بـ«العائليّة» ـــــ من شأنها أن تجمعنا بهذا الأديب الذي ينتمي إلى سلالة منقرضة: باريس، الحي اللاتيني. قاهرته المتخيّلة، ناسه الغلابى السعداء على طريقتهم، وغير ذلك من شحاذين ومهرّجين، خوارج وتنابل، مومسات ولصوص ظرفاء وباعة متجولين، حالمين ومهمّشين... اللغة المتقشفة الجذلى التي كتب بها أعماله القليلة، وغاليري الشخصيات والوجوه التي خيّمت على عالمه. الخروج عن القواعد والثوابت والقيم المهيمنة. التسكّع، لا شيء إلا التسكّع. الكسل كفلسفة وجود، والجلسات الطويلة في مقاهي الرصيف العريقة، المطلّة على العالم، من بولفار سان جيرمان دي بري... هناك كان من السهل استراق النظر إليه، بمزيج من الدهشة والإعجاب، غالباً من خلف واجهة الـ«فلور» أو من طاولة مجاورة في «لي دو ماغو» أو Le Chai de l'Abbaye...
هكذا إذاً، كان لألبير قصيري (١٩١٣ ــــ ٢٠٠٨) ما أراد. عاش تماماً كما اختار، من دون أي تنازلات للنظام الاستهلاكي ولموضة العصر المتلاحقة: أي من دون أن «يعمل» و«يمتلك». ومات كما كان يحلم: في فراشه، في الغرفة ٥٨ الوضيعة من فندق La Louisiane الذي استضاف ذات حقبة على شارع السين، سارتر ودو بوفوار وجولييت غريكو وجورج موستاكي ومارتشيللو ماستروياني... في تلك الغرفة نفسها عاش صاحب «شحاذون ونبلاء» أكثر من نصف قرن. انتقل إليها في عام ١٩٥٢، أي بعد سبع سنوات من وصوله إلى باريس، ليقيم فيها باقي أيامه صعلوكاً أبديّاً، حاملاً معه من القاهرة صوراً ووجوهاً وحكايات تختصر ذلك العالم الذي لازمه على الدوام. لم يعد إلى الوطن إلا نادراً (آخر مرّة كانت في عام ١٩٩٥ عند رحيل أخيه الأكبر). من السان جيرمان كانت عينه على القاهرة والإسكندريّة ودمياط والصحراء... تماماً مثل جيمس جويس الذي أقسم على ألا يعود إلى دابلن، لكنّه لم يكفّ عن استعادة إيرلندا في أدبه، كتب قصيري عن بلده، كما عرفه في الثلاثينيات والأربعينيات، وكما واصل تخيّلها، جاعلاً منه أرض مجاز كونيّة (ألم تترجم كتبه الثمانية إلى خمس عشرة لغة؟) يمكن أي قارئ أن يجد نفسه فيها.
«مسيو ألبير»، كما كان يخاطبه النادل في مطعم Lipp العريق حيث درج على تناول غذائه عند الثانية بعد الظهر، قبل أن يعود الى الفندق المجاور من أجل القيلولة... لم يمتلك شيئاً. ويقول إنّه لم يعمل في حياته، ولم يرَ أحداً من أفراد عائلته يعمل. الجد والأب والأخوة في مصر عاشوا من عائدات الأرض... أما هو، فلا تحاولوا أن تفهموا كيف عاش. يوماً بيوم على الأرجح، من مساعدات الأصدقاء: «لو احتفظت بهدايا أصدقائي الفنانين لكنت اليوم مليارديراً» قال في أحد حواراته الصحافيّة. كان إذا أهداه جياكوميتي أحد أعماله، يبيعه في اليوم التالي ليشرب ويأكل ويلبس ويدفع إيجار الفندق. عاش أيضاً من كتابة السيناريوات. وأخيراً اعتمد على عائدات كتبه التي أصدرتها، أو أعادت إصدارها الناشرة الفرنسية Joëlle Losfeld، منذ عام ١٩٨٦، عن الدار التي تحمل اسمها. وقد باتت لوسفيلد من أقرب أصدقائه بعدما رحل الآخرون...
على خطى بول لافارغ، طالب ألبير قصيري بـ«الحقّ في الكسل»... طالب به لنفسه، ولشخصياته. لكنّه ليس الكسل تماماً، بل فلسفة حياة مختلفة، تذهب إلى عمق الأشياء وجوهرها بعيداً عن السباق الأعمى الذي فرضته الحضارة الحديثة. إنّه الثبات في مواجهة الأزمنة المعاصرة، والبطء بحثاً عن الإتقان والجودة والعمق والنوعيّة واللذة. «لا أعرف سوى الكتابة» كان يردد الرجل الذي أقام علاقة حميمة بالأدب منذ وقت مبكّر، فكتب في السادسة، وقرأ الأدب الكلاسيكي الفرنسي مبكراً، ونشر ديواناً شعرياً بعنوان «لسعات» (١٩٣١) في القاهرة، حيث انضمّ إلى حلقة «فنّ وحريّة» التي أسسها جورج حنين.
لكنّ صديقنا كان يأخذ كلّ وقته. يكتب ببطء، يبحث أياماً عن الكلمة المناسبة، فلا يقبل في نصّه جملة واحدة زائدة. الكاتب المصري ــــ الباريسي الذي فكّر بالعربيّة، وتنفّس بالعاميّة المصريّة، وكتب بلغة بلزاك، جاء أدبه مشبعاً بروح الشرق. لغته بسيطة متقشّفة، الحبكة غالباً خفيفة، المتعة الحقيقيّة في بناء الشخصيات ورسم البورتريهات الملوّنة، وقولبة السرد والحوارات. لقد سلّط في رواياته وقصصه نظرة رقيقة وساخرة، ملؤها المرح، إلى العالم، مركزاً على سخافة الطبقات المهيمنة، ونصْب أسياد العالم وتطفلهم، هؤلاء «اللصوص الشرعيين» كما كان يسمّيهم. لقد كان، باختصار، ينظر إلى التطوّر المادي بعين الريبة.
جوهر بطل «شحاذون ونبلاء» (١٩٥٥)، الرواية التي تختصر عالم قصيري بامتياز، أستاذ سوسيولوجيا ترك التدريس بعدما اكتشف عقم ما يدرّسه. سكن في مدينة الموتى، وصار شحاذاً وصاحب فلسفة وجوديّة. واكتفى بالحشيش ومناخ الماخور والمومسات، وقتل إحداهنّ لسرقة مجوهرات يعرف أنّها بلا قيمة. الرواية حوّلتها أسماء البكري إلى فيلم سينمائي أول التسعينيات، وصدرت أيضاً في ألبوم شرائط مصوّرة بريشة Golo الفنّان الفرنسي الذي ذهب للعيش في مصر بعدما قرأ ألبير قصيري... المناخات نفسها نجدها في قصص مجموعته الأولى التي صدرت في القاهرة «الناس الذين نسيهم الربّ» (١٩٤١)، ونشرها هنري ميلر في الولايات المتحدة.
ويصوّر «بيت الموت المحتوم» (١٩٤٤)، حالة «صراع طبقي» إذا جاز التعبير، بين سكّان العمارة المتصدّعة الآيلة إلى الانهيار، والمستثمر الشره: شخصيات هامشيّة فقيرة لا تملك أين تذهب، وتجد نفسها متروكة لمصيرها وقانعة به. في «تنابل الوادي الخصيب» (١٩٤٨) يصوّر عائلة لا شغل لها سوى النوم. وفي «طموح في الصحراء» (١٩٨٤)، من خلال ثورة وهميّة ستنشب في إمارة صحراويّة، يصفّي حساباته مع الأنظمة النفطيّة التي يراها أداةً في يد القوى العظمى المهيمنة. بعيداً عن الإيديولوجيات يرصد هشاشة الإنسانيّة وعيوبها بكثير من الطرافة والسخرية والمرح. في «مؤامرة مهرّجين» (١٩٧٥) يتّهم الأنظمة البوليسية القمعيّة، ويتخيّل مجموعة سريّة من الخوارج الهامشيين تواجه الاستبداد من خلال الكلمة لا العنف، عبر ملصقات إعلانيّة. وفي آخر رواياته «ألوان النذالة» (١٩٩٩) يعود إلى ثيمته المفضّلة من خلال شخصيّة أسامة اللص الأنيق الذي لا يسرق إلا الأثرياء.
«الأناقة» في قلب تجربة قصيري الأدبيّة والوجوديّة، أناقة الأسلوب واللغة. اليأس الأنيق الذي يعرف سلفاً مصير العالم وحدود الأفكار والمُثل... ويعرف أن سقوط طاغية لا يعني نهاية الطغيان. ألبير قصيري كان أيضاً حريصاً على أناقته. هو المتقشّف في أشياء الوجود، كان مسرفاً في الاهتمام بمظهره. بطيفه النحيل والتماعة نظرته المطعّمة بالسخرية، ووجهه الذي يشبه وجه نسر، كان يعبر كأمير على أرصفة حيّه الأثير. كان الـ Dandy بامتياز. الرجل الأسطورة الذي عاش ستين عاماً من لا شيء. الأرستقراطي الفوضوي، كاره المال والطموح والنذالة. والشاب العجوز، العازب الأبدي، الصامت منذ التسعينيات بعدما انتزع الطبيب أوتاره الصوتيّة مع الخلايا الخبيثة، ولم ينتزع السيجارة عن شفتيه. لقد غلبه الضجر، ملّ أخيراً من تأمّل الوقت والعالم من طاولة المقهى الباريسي. مضى (إلى القاهرة؟) في الرابعة والتسعين. يبقى اليوم أن تعود أعماله إلى العربيّة بما يليق بها من العناية والحفاوة والأمانة.


أرستقراطيّة العدم

فولتير النيل، أوسكار وايلد الفرنسي، باستر كيتون العربي، مخترع أرستقراطيّة العدم.... هذه بعض ألقاب ألبير قصيري التي قرأناها في الصحافة الأدبيّة والعامة في فرنسا. وقد حيّت وزيرة الثقافة الفرنسية كريستين ألبانيل بعد إعلان نبأ رحيله «مبدعاً خلاقاً، وأميراً من أمراء الأدب الفرنسي».
في استجواب سريع نشرته مجلّة Lire قبل سنوات، يسأله الصحافي: كيف تريد أن تموت؟ ـــ «في فراشي». وإذا التقيت الربّ ماذا تحبّ أن يقول لك؟ «أنا فخور بك». لعلّ هذا ما حدث قبل يومين، أي صباح الأحد، أوّل أيام الصيف، حين انسحب الرجل في الرابعة والتسعين، تاركاً لـ«الحيّ اللاتيني» أن يودّع آخر وجوه تلك السنوات الخصبة التي احتضنت أشهر كتّاب العصر ورسّاميه وممثليه ومغنيه... وربّما لم يلتق قصيري أحداً «هناك». لن نعرف أبداً. ما نعرفه أن حي السان جيرمان خسر آخر أساطير العصر الذهبي الذي احتضنه ذات يوم، قبل أن يستسلم لاجتياح الزمن الاستهلاكي الذي يكنّ له الكاتب المصري، صديق جياكوميتي وهنري ميلر، جان جينيه وألبير كامو وألكسندر داريل، مولودجي وماركو فيريري، كل احتقار وعداء.