عاصمة الثقافة العربيّة 2008» استضافت المعلّم البريطاني الذي قدّم النسخة الإنكليزيّة من عمله المقتبس عن «الأخوة كارامازوف» (تمثيل بروس مايرز). وغداً موعد الجمهور الدمشقي مع عرض راقص لجوزيف نادج
أسامة غنم

في شباط (فبراير) 2008، وقف شابّ هنغاري جميل، على خشبة المسرح الفارغة في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وقال لحبيبته في بداية مسرحية «النورس» لتشيخوف: «يجب أن نخلق أشكالاً جديدة». بعد خمسة شهور على«نورس» التي قدّمها آرباد شيللينغ بأسلوبه المقتصِد والشاعري، جاء بروس مايرز إلى «دار الأوبرا» السورية، ليقول فوق المساحة الفارغة نفسها: «أحرقت القبلة قلب العجوز، لكنه لم يعدل عن فكرته...»
وبين «نورس» تشيخوف و«المفتّش الكبير» لدوستويفسكي... بين الهنغاري شيللينغ ابن الثالثة والثلاثين، ومعلّم المسرح الأول الثمانيني بيتر بروك، رأينا معجزة «المساحة الفارغة» (عنوان مؤلف مرجعي لبيتر بروك): المسرح باعتباره فضاءً لحضور الممثل، والدراماتورجيا المتقنة بصفتها توليداً متواصلاً للأسئلة وللمعنى في الكتابة وفي الإخراج.
«المفتش الكبير» التي عُرضت أخيراً ضمن «احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية ــــ 2008» أعدتها ماري هيلن ايستين، وأخرجها بيتر بروك قبل أربع سنوات، في نسخة فرنسية مع أحد ممثليه الأثيرين: موريس بينيشيو. ثم عاد بروك ليقدمها بالإنكليزية، في نسخة أشد صخباً وعمقاً، مع الممثل الشكسبيري التكوين، ابن مانشستر ورفيق درب بروك منذ نهاية الستينيات: إنّه بروس مايرز الذي أدّى دور كريشنا في «المهابهاراتا»، وبولونيوس ثم حفّار القبور في «هاملت».
المسرحيّة مأخوذة عن رواية دوستويفسكي «الأخوة كارامازوف». إنّها حكاية، يرويها إيفان المثقف صاحب الهواجس، لأخيه الجميل والبريء أليوشا، عن المسيح الذي عاد إلى إشبيلية في عزّ عصر «محاكم التفتيش». وحكاية اللقاء بينه وبين المفتّش الكبير الذي يلقي القبض عليه بسبب انزعاج المؤسسة الدينية من تلك العودة. تجري الأحداث في إشبيلية، في أحلك عهود محاكم التفتيش... يدخل مايرز الخشبة من اليسار ومسيحه الشاب من اليمين. يستقر الأخير على مكعّب أسود أمام الأرضية الرمادية المستطيلة التي تملأ منتصف الخشبة. سيبقي المسيح ظهره إلى الجمهور ما عدا لحظة واحدة، عندما يقوم ــــ في غفلة عن المفتش ــــ بإلقاء نظرة خاطفة إلى أولئك الذين أراد منهم أن يؤمنوا وأن يكونوا أحراراً في الوقت ذاته.
مايرز في الفراغ، يؤدي دور المفتّش والراوي معاً. يحكي لنا كيف أقام المسيح، لدى عودته، طفلةً من الموت. يرسم الكفن بيديه على تلك الأرضية الرمادية، وبالآرامية يعلن قيامتها أمامنا. يتحدث المعلّم الألماني برتولد بريخت، في كتاباته النظرية، عن الشخص الذي يروي حادث سيارة وقع على مرآى منه، باعتباره نموذجاً للممثل الملحمي. بروس مايرز يروي عودة المسيح، منتحلاً نص ايفان كارامازوف، بالتماهي نفسه والمسافة نفسها في آن واحد... قبل أن يزرر معطفه الأسود، وهو يدور حول الأرضية الرمادية، ليدخل في شخصية المفتش الكبير، ويبدأ حواره الهائل مع المسيح في زنزانته.
يقول مايرز: «وحده المفتش الكبير لا يعرف نفسه». يغري هذا الممثل بالتأمّل. يصيبك الذهول وأنتَ تراه يتحوّل وسط نص دوستويفسكي كل يوم بطريقة مختلفة. في اليوم الأول، هو مفتش صارم هستيري يرتجف في صوت هادر، عندما يقول للمسيح: «أنا لا أحبك». في اليوم الثاني هو مفتش واقعي، يؤكد على الصمت بين الجمل، وتغدو ارتجافته بعد القبلة ــــ عند النهاية ــــ ارتجافة حب أو أصعب: ارتجافة العوز للحب. في اليوم الثالث هو مفتش لئيم، لكنه زعيم سياسي فاشي، يعلن كيف سيقود قطيع المؤمنين، ويسمح لهم بأن يزنوا إذا بقوا خائفين. مشروعه مبني بحسب دوستويفسكي على ثلاثة عناصر: المعجزة، السر والسلطة. برأي مايرز أنّ دوستويفسكي ــــ وتشيخوف بعده ــــ كانا «يعلمان» بأنّ الثورة ستأتي وستدمّر البلد. يوافق بعضهم ويخالف البعض الآخر، يرتبك آخرون أمام كثافة النص، ومحاولة متابعة الترجمة واللحاق بسمفونية الإلقاء الشكسبيري التي لا تنتهي.
بيتر بروك الذي انتقل من مواقع اليسار في نهاية الستينيات، إلى أسئلته الميتافيزيقيّة عبر رحلة المثاقفة مع فرقته المتعددة الأصول ابتداءً من السبعينيات، قدّم في «المفتش الكبير» أحد أعماله الكبرى. ابن الرابعة والثمانين يلتقط من خلال حكاية إيفان كارامازوف لعبة العدم والوجود في كليّتها: جمال المسيح يغدو قناعاً لغواية الإيمان والأمل بالحرية، ووجه بروس مايرز المتغضن وذقنه البيضاء وعيناه الزرقاوين الملتمعتين كسكين من جليد، تغدو قناع الثورات والإيديولوجيات. والمؤسسة أساساً! لكنّه، قبل كل شيء، قناع التقدم في العمر والحاجة الماسة إلى الحب.
المسرح باعتباره تجربة وجود، هكذا يمكن اختصار تجربة بيتر بروك عموماً. وعمله مع بروس مايرز كان في دمشق، عاصمة الثقافة العربية، فرصة ثمينة لاكتشاف أحد عمالقة المسرح الحديث، أو إعادة اكتشافه...

«نشيد الصباح الصغير» ــــ عرض راقص لجوزف نادج مع دومينيك ميرسي ــــ «مسرح الأوبرا» في دار الأسد للثقافة والفنون: عند الثامنة من مساء الخميس 26 والجمعة 27 حزيران/ يونيو


المسرح كتجربة وجود