يختتم مهرجان «فوروورد» غداً برنامجه لهذا الموسم في مسرح «بابل» (بيروت). أمسيتان، يحييهما عازف العود والمغنّي المصري الشاب، جامعاً بين الإنشاد الصوفي والطرب والتراث الشرقي الكلاسيكي

بشير صفير
يعرف الجمهور مصطفى سعيد من خلال إطلالاته مع عازف الكمان اللبناني نداء أبو مراد، أو مع فرقة «أصيل» (تخت شرقي) التي تأسست عام 2003 بهدف تقديم الموسيقى العربية المشرقية التقليدية، وتضم، إضافةً إلى مصطفى، كلاً من محمد عنتر (ناي)، وغسان سحاب (قانون) وإلياس خوري (إيقاع). لكنّ «فوروورد» تعيد إلينا عازف العود والمنشد المصري الشاب في حلّة مختلفة، إذ تختتم بحفلتيه، غداً وبعد غد، على مسرح «بابل» (الحمرا)، مهرجانها الذي نفح رياحاً مختلفة على المشهد الموسيقي اللبناني.
ضمن برنامج «فوروورد»، يقدّم الفنّان المصري الضرير ــــ برفقة «أصيل» ــــ مجموعةً أغنيات من ألبومه الجديد «رباعيات الخيام»، في أداء إنشادي صوفي طربي، وعلى قاعدة كلاسيكية شرقية. ولا شك في أنّ الجمهور سيكتشف في هذه المناسبة صوتاً كبيراً ومميّزاً، وسيستمتع بأداء موسيقي عالي المستوى، يدخلنا في حالات طربية باتت نادرة هذه الأيام. وإذا كانت محاولات تجديد التراث وتطوير الموسيقى الشرقية مطلوبة بإلحاح، فالتذكير بالأصل ــــ على أساس الأمانة والمهنية ــــ أمرٌ ضروري للانطلاق السليم والمتين في الاتجاه التحديثي.
إنها، إذاً، الخطوة الرسمية الأولى لمصطفى سعيد في اتجاه استخدام صوته إلى جانب عوده. وقد أراد لها عنواناً يقوم على مزاوجة الإنشاد الصوفي بالمعاني الدنيَوية والفلسفية لرباعيات الشاعر الفارسي. هكذا اختار سعيد أكثر من ثلاثين رباعية، من تعريب الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1897 ــــ 1977)، وقسّمها إلى ثلاث مجموعات على شكل وصلات، وبحسب المقام الأساسي المُعتمَد في كل وصلة: «وصلة في راحة الرواح»، و«وصلة في الدوكاه»، و«وصلة في المُستقيم». كما اعتُمِدت في الأداء الغنائي والآلاتي قواعد موسيقية كلاسيكية مشرقية، فحتّمَت وجود المكتوب والمرتجَل بشكل يتبع تنظيماً دقيقاً لا يلتقطه إلا الضليعون بهذه القواعد. كما حاكى المشروع في جزء منه الإنشاد الصوفي الحلبي عموماً، مقارباً بالشكل خصوصاً مدرسة الفنان السوري الراحل صبري مدلل (1918 ــــ 2006).
«رباعيات الخيام» عمل مُتقن بمهنية وإحساس عاليين، من ناحية الأداء الموسيقي الممتع لفرقة «أصيل». لكن يبقى الصوت طبعاً هو محور اللعبة. وفي هذا السياق يمكن تسجيل جُملة ملاحظات دقيقة ومتطلبة، من باب الحرص على هذا الصوت الجيّد ومشروعه الكبير.
يملك مصطفى سعيد صوتاً مهذباً وصحيحاً، جميل الخامة، وخصوصاً في الطبقة الوسطى التي يرتاح إليها، وإلى أطراف الطبقتين العالية والمنخفضة لجهة الوسطى. إنما تشوبه شائبة غير نافرة في مخارج بعض الحروف كالـ«س» والـ«ز». فيما تفقد هذه الخامة أحياناً من حسنها في الطبقة العالية، وذلك بعد نوتة محددة. إذ يصبح الصوت ضبابياً كأنه ينغلق داخل غشاء رقيق. لكنّ الأذن المدرّبة على الغناء الصوفي والتجويد القرآني المصري، تشعر بأنّ صوت سعيد ينقصه قليلٌ من النضوج الذي يتحقق تدريجاً مع العمر.
من جهة أخرى، هناك إحساس بنقص ما، طفيف لكن ثابت، لا يمكن تسميته بشكل واضح. إضافة إلى النضج، تلعب الخبرة دوراً أساسياً في تنقية الصوت وحسن استعماله. فسعيد يدرِّس الإنشاد الصوفي، لكنّه لا يمارسه بشكل جديّ وثابت، ولم يراكم الخبرات الكافية بعد. فما تُكسِبه الخبرة من قدرة على السيطرة والاستعمال السهل والواثق للطاقة الصوتية، لا يمكن أن تلقنه الدراسة ولا التدريس الأكاديمي للغناء. وهذه الحقيقة تطغى أكثر فأكثر، كلما ازداد حجم الارتجال وأهميته في النمط الغنائي. في غناء ما هو مُدوَّن، هناك حالتان لا ثالث لهما: الصحيح وغير الصحيح (أو النشاز). بمعنى أوضح، الصحيح لا علاقة له بجمال الصوت وخامته، بل في إصدار النوتات والرموز الموسيقية بشكل صحيح وبالتتالي كما كُتِبَت. والنشاز هو غناء نوتة (على الأقل) غير مكتوبة في اللحن. كما لا يمكن القول إنّ المغني الفلاني يغني نشازاً في حالة الارتجال، إلا في حالة خاصة هي التفريد على نغمة مضبوطة بمقام موسيقي معيَّن... والنشاز هنا يكمن في استعمال غير إرادي لنوتات من خارجه.
لا يخطئ مصطفى سعيد في الغناء ولا في التفريد. لكنّه يبدو في الشق المُرتجَل كأنه يقرأ النوتات في ذهنه قبيل ارتجالها. وقد يعود السبب إلى التعمق في أصول الموسيقى، والتعامل مع النوتات كإشارات علمية. لكنّ ذلك يبدو هنا سيفاً ذا حدّين: هناك سهولة استحضار النوتة من جهة، وفقدان الإحساس بها من جهة أخرى. لذا أقلّ اللحظات متعة هي في مساحات الارتجال، علماً بأنها ستصبح أكثرها إمتاعاً مع الخبرة. في حين نستمتع مع ألبوم «رباعيات الخيّام» كثيراً بالأداء الدقيق للجمل المكتوبة. وتتحقق النشوات عند التطريب الذي يقوم به سعيد على المكتوب، ما يثبت صحة وصف علاقته البرعمية بالارتجال، وصوابيّة التكهن بنضوجها الأكيد. وفي المحصلة، تستحق هذه التجربة التقدير والالتفاتة... والمتابعة أيضاً، بدءاً من حفلة مساء غدٍ.


مصطفى سعيد: حفلتان الجمعة والسبت، الثامنة مساءً ــــ مسرح بابل (الحمرا): 01،744033
أسطوانة «رباعيات الخيّام»
Forward Production
www.fwdprod.com