مشروع رسول محمد رسول ينطلق من دراسة نشوء «الإسلام السياسي في العراق الملكي». لكنّه يبتعد عن المنهج العلمي، منزلقاً إلى فخّ السذاجة والانفعال والتطرف. مقولات الكتاب تمهّد لتخبّط خطِر لا أحد يسعه تحديد عقباه في المدى المنظور
سعد هادي

لا يكتفي رسول محمد رسول في كتابه «الإسلام السياسي في العراق الملكي» (دار النايا ــــ دمشق)، باستعراض تاريخ ثلاث حركات سياسية إسلامية عراقية، هي «حركة الإخوان المسلمين» و«حزب التحرير» و«حزب الدعوة الإسلامية»،بل يهدف أيضاً وأساساً إلى تقديم أطروحة مقلقة، مفادها أنّ جزءاً كبيراً من خراب الواقع العراقي كان بسبب «تمظهرات أيديولوجية علمانية تكاتفت مع مشروع كولونيالي عالمي لإعادة الهيمنة الاستعمارية على منطقة الشرق الأوسط من جهة، وتصدير الأفكار العلمانية وإشاعتها، تحت مسمّيات برّاقة كالحداثة والتحديث والعلمنة والقومية والبعثية والتحرير... وغير ذلك من الجهاز الإصطلاحي الذي اشتغل به المشروع الكولونيالي من جهة أخرى».
هذا الرأي ردده بأشكال مختلفة في صفحات عدّة من الكتاب، حتى بدا أحياناً وهو يورد أفكاره أو تفسيراته للأحداث كأنّه يشير الى حقائق مسلّم بها. يكتب مثلاً تعقيباً على اتساع دور «حزب التحرير»: «كان نوري السعيد يشعر بالخوف من برنامج هذا الحزب الذي نحا منحىً جذرياً وثورياً وانقلابياً في خطابه الفكري والديني والحركي». ويذكر أيضاً أنّ المسعى الاستراتيجي للحزب ــــ وهو إقامة دولة إسلامية، «أرعب الإنكليز، وأرعب النظام الملكي، وأرعب أعوانهما ونواطيرهما في المنطقة عامة، وفي العراق على نحو خاص... كذلك أرعب التيارات الإيديولوجية العلمانية: الشيوعية والقومية والبعثية والليبرالية».
والمؤلّف يتطرف أحياناً لإثبات بعض آرائه، ذاكراً وقائع لم يتسنَّ التأكد من صدقيتها، وهي تندرج ضمن ما يطلق عليه تجاوزاً «نظرية المؤامرة». إذ إنّ نهاية النظام الملكي عام 1958، وقيام نظام سياسي جمهوري، لم يأتيا «نتاجاً لثورة شعبية طبيعية وتلقائية، كما يحلو القول والتفسير لمن وجد في ما أقبل عليه الضباط الأحرار عملاً وطنياً حقيقياً. إنّه جاء تنفيذاً لإرادة كولونيالية مجددة هذه المرة، فالغرب الأميركي ــــ البريطاني، كان يدرك المخاطر المقبلة على سياساته في العراق، الناتجة من نمو الإسلام السياسي منذ نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين... كان هدفه تفتيت المشهد الأصولي السياسي الإسلامي، مع تكريس أكبر مشروع سياسي واجتماعي واقتصادي لعلمنة نظم المجتمع العراقي الفاعلة ومؤسساته. أما مَن قام بذلك، فهم الشيوعيون... لأنّهم كانوا يمثّلون قوة حقيقية في نسيج المجتمع العراقي. وقد وجد فيهم زعيم الثورة عبد الكريم قاسم، الكتلة الأكثر قدرة على تحقيق الهدف الكولونيالي الجديد الذي قادته ثورة تموز القاسمية ــــ البعثية في إطار مصلحي مقزز!».
وعلى حد اطّلاعنا، فإنّ مصطلح «ثورة تموز القاسمية ــــ البعثية» يطلق هنا لأول مرة، والكاتب ينحت من تسميات متناقضة إطاراً مفترضاً لتوصيف حدث تاريخي مفصلي في تاريخ العراق المعاصر، قد نختلف على مرجعياته وأسبابه، لكن علينا ألا نخلط بالتأكيد في نتائجه أو درجة تأثير القوى المختلفة في تلك النتائج... وهي ظاهرة للعيان ولم تعد بحاجة إلى الكثير من الحيادية والموضوعية لتفسيرها.
أكثر من ذلك، فإن المؤلف يذكر بعض الأحداث من وجهة نظر الأحزاب والحركات الدينية، كأنّه يعبِّر عنها ولا يتوصل ــــ كما تقتضي شروط البحث العلمي ــــ إلى ضرورتها التاريخية، أو النتائج الاجتماعية التي أدّت إليها، أو كان ممكناً أن تؤدي إليها. فهو يرى مثلاً أن قرار عبد الكريم قاسم تجريد العشائر من سلاحها، جاء لتكريس استراتيجية ثقافية من شأنها إشاعة فكرة فصل الدين عن الدولة بمعونة الشيوعيين العراقيين، بحجة نقل المجتمع العشائري إلى مستوى التحديث والإنماء، وترويج قرار النظام القاسمي التحديثي تحت مسمى «الإصلاح الزراعي». وهذا ما أدى برأي رسول محمد رسول إلى صراع ظل يتطور على نحو متفاقم بين علمانية الثورة القاسمية ورؤاها التحديثية ذات الأطر الكولونيالية الجديدة، وأصولية الإسلام السياسي التي استأنفت عملها من جديد في ظل رؤية نخبها الدينية والفكرية.
ويخلط المؤلف أحياناً بين آرائه والحقائق الموضوعية، فيقدّمها من دون الاعتماد على آراء أو وجهات نظر تسند رأيه. حتى إنّ ما يذكره من الآراء الساندة يمكن وصفه بالساذج، أو المنفعل، أو المتطرف. فهو حين يقول عن الشيوعية إنّها لم تقدم للعراقيين سوى الخيبات والمآسي، وكانت ظاهرة صوتية أكثر منها فعلية وملموسة على صعيد البناء والتنمية والتقدم ــــ باستثناء المتغير الفكري الذي أحدثته في بنية المشهد الثقافي في العراق ــــ يعقِّب على ذلك برأي لمحمد محمود الصواف (1914 ــــ 1992) مؤسس حركة «الإخوان المسلمين» العراقية. إذ كان هذا الأخير يردّد دائماً أنّ الشيوعية صناعة بريطانية، وأن الإنكليز دعموا عمليات خلق مفاعيلها الإيديولوجية والفكرية والثقافية للتصدي لأي حراك إسلامي أصولي يزاحم المشروع الإنكليزي العلماني في العراق الملكي، وربما ما بعده. ثم يشير المؤلف بعد أسطر من ذلك إلى ما يلي: «إذا كان الشيوعيون في العراق صناعة إنكليزية ــــ روسية، فإن البعثيين الذين كان عداؤهم للإسلام أكثر خسة صناعة أميركية ــــ بريطانية»، في حين أنّ الاستخبارات البريطانية ــــ والكلام للمؤلف أيضاً ــــ شرعت في مصر بالعمل على اختراق «الإخوان المسلمين» لتقويضهم وتدميرهم. وقد أشارت اتهامات جماهيرية عدة نشرتها جريدة «صوت الأمة» في 28 آب (أغسطس) 1946 إلى أنّ الشيخ حسن البنا مؤسس «الإخوان المسلمين» في مصر هو «صنيعة الإنكليز».
وعلى رغم ما يقدّمه الكتاب من تفصيلات عن نشوء الحركات الإسلامية الثلاث، وإشكاليات انبثاقها وظروفها وتطورها في سنواتها الأولى ــــ وذلك جزء من طموح المؤلف للبحث في تاريخ العراق الحديث ــــ وتحديداً بعدما لاحظ حجم التخبط الذي اتسمت به تحليلات الكثير من الباحثين العرب والغربيين في الشأن العراقي منذ انهيار نظام الدولة البعثية عام 2003 ــــ فإن استخلاصات المؤلف وأحكامه وآراءه قد تقود إلى تخبّط أشد خطورة، منهجياً ومعرفياً، ربما لا نعرف عقباه في المدى المنظور.