خالد صاغيّةتحدّث فؤاد السنيورة إلى الصحافيّين، فقال: «دعوني أنا في المطبخ، واجلسوا أنتم في غرفة الطعام». الحال أنّنا مستعدّون للجلوس في الحمّام، لا في غرفة الطعام وحسب، شرط أن يغادر السنيورة المطبخ. لكنّ رئيس الحكومة المكلّف لم يكتفِ بدور الطبّاخ، فتقمّص شخصيّة الملك لويس الرابع عشر، رافعاً شعار: «أنا الدولة». فقد رفض دولته البحث في إمكان إعطاء حقيبة الاتصالات للمعارضة، بحجّة أنّ هذه الحقيبة هي «للدولة»! الغريب في الأمر أنّ هذه الغيرة على «حقيبة الدولة» هي من أجل أن تقوم الدولة نفسها بخصخصة قطاع الخلوي، أي من أجل أن تتخلّى الدولة عن إدارتها لهذا القطاع. وقد لمّح السنيورة إلى ذلك بقوله إنّ حقيبتَي الاتصالات والطاقة مرتبطتان بمشروع باريس 3 الذي وصفه بـ«الإصلاحي».
الواقع أنّ هذا النوع من «الإصلاح» يقوم به «الشيف» فؤاد منذ 15 عاماً في مطبخ وزارة المال. هناك، تمكّن السنيورة من أن يعدّ طبقاً يدعى «مقلوبة». إلا أنّ «مقلوبة» السنيورة لا تشبه الطبق المعروف في بعض المناطق اللبنانية، الذي يحمل الاسم نفسه. ففي طبقه، لا مكان للباذنجان ولا للأرزّ. لـ«مقلوبة» السنيورة قصّة تستحقّ أن تروى.
كان يا ما كان في الرأسماليّات الحديثة... حدث أن خرجت الدول من ميدان الإنتاج في معظم القطاعات الاقتصاديّة، وتركت للسوق حريّته في العمل. تلك الحرية، وإن بقيت مضبوطة في مجالات عدّة، أنتجت فوارق طبقيّة كبيرة، وخلّفت الكثير من الضحايا. كان لا بدّ من «تدخُّلٍ» ما تقوم به الدولة. تدخُّل أريد له ألا يشكّك في شرعيّة أرباح التجّار، ولا أن يسائل استغلال أرباب العمل للعمّال. بقيت الدورة الاقتصادية على حالها، مع فارق بسيط: ستقوم الدولة من الآن وصاعداً باقتطاع جزء من هذه الأرباح تحت غطاء يسمّى «الضريبة».
لم تغيّر الضريبة التي فرضتها الدول الحديثة من طبيعة النظام الرأسمالي. بقي العامل ينال أجراً لا يتناسب وحجم إنتاجه، وبقي ربّ العمل هو من يستحوذ على الإنتاج، من دون أن يعمل. رضيت الدولة بهذا النظام، ودعمته. لكن، في المقابل، رأى أولئك الذين ينظرون إلى البعيد أنّ نظاماً غير عادل كهذا لا يمكن أن يستمرّ، ما لم يجرِ الاهتمام بضحاياه. فليُستغلّ العمّال، لكن فلنقتطع جزءاً ممّا بات يسمّى «أرباحاً»، ونسمِّه ضريبة. ولنستخدم هذه الضريبة في تأمين بعض التقديمات الاجتماعيّة التي سيستفيد منها المواطنون كافة، وخصوصاً أصحاب الدخل المحدود.
كان يا ما كان في الرأسماليّات الحديثة... حدث أن فرضت الدول ضرائب على المواطنين، وخصوصاً الأثرياء منهم، واستخدمتها لمنح تقديمات للمواطنين، وخصوصاً الفقراء منهم. إنّها إعادة توزيع محدود للدخل في المجتمع. إنّها عملية صغيرة تعيد للعمّال جزءاً يسيراً ممّا أُخذ منهم عبر الاستغلال.
المكوّنات الأساسيّة في «مقلوبة» السنيورة هي السعي لقلب عمليّة توزيع الدخل هذه. هكذا جرى العمل ليلاً ونهاراً لإدخال البلاد في حلقة تستخدم الضريبة كعنصر لإعادة توزيع الدخل من الفقراء إلى الأغنياء، هذه المرّة.
للأمانة، لم يكن السنيورة خلال تلك الحقبة المسؤول الأوّل عن هذا التوزيع «بالمقلوب». لكنّه كان الأداة التنفيذيّة في وزارة المال، كان «شيف» المطبخ الذي ينفّذ تعليمات صاحب الفندق، أو تعليمات من أراد تحويل هذه البلاد إلى فندق.
نجح الجزء الأوّل من «المقلوبة». بقي الجزء الثاني. الخصخصة على النار.